إلى
أي مدي يمكن أن يكون الشغل وسيلة للتحرر ؟
مقدمة: إذا نظرنا في
مفهوم الشغل و جعلناه فاعلية إنسانية إلزامية و إذا نظرنا في مفهوم الحرية وجدناها
نقيضة كل إلزام، هل هذا يعني أن الشغل نفي الحرية ؟ لكن إذا كان الإنسان لا يمكنه
أن يعيش بدون الشغل الذي يحرره من حاجيات كثيرة، كيف يمكن أن يكون الشغل كالإلزام
وسيلة للتحرر؟
العرض: إن الشغل هو جهد عضلي و فكري يبذله
الإنسان و يبذل معه من الطاقة ما يجعله يشعر بالتعب، لكنه تعب لا بد منه إذا أراد
البقاء ككائن عضوي ثم ككائن اجتماعي و الشغل بهذا ضرورة تمارس على الإنسان نوعا من
الإلزام الذي يفقده حريته، يقول فرانسوا سيمياند (1873/1935):" العبد و
المعمرون و الخدم و الأجراء لا يتقاضون الربح الكامل من عملهم حيث إنهم لا يبذلون
هذه الجهود بحرية و تلقائية بل هم مكرهون عليها إما من جراء الفقر أو نتيجة الحاجة
الاقتصادية التي تضطرهم إلى هذا الوضع إذا هم رغبوا في العيش." و إذا كنا لا
نستطيع أن نتصور حرية في وسط هذا الإلزام كان الشغل نفيا للحرية .
انتشرت
هذه النظرة السلبية إلى الشغل في الثقافات القديمة و ارتبط الشغل (اليدوي)بالعبد و
بالعالم المادي السفلي الذي يشقى فيه الإنسان و يتعب، لذلك لم يهتم به الأسياد
الذين تفرغوا للشغل الفكري الذي يرفعهم إلى العالم العلوي، ولقد عرف العبد في هذه
الحضارات أبشع أنواع الاستغلال فهو الذي يعمل و يكد و لا ينال من عمله سوى التعب و
الخضوع لرغبة الأسياد الذين يتحكمون ليس في جهده فقط و غنما حتى في حياته و لم تكن
حالة القن في نظام الإقطاع تختلف عن حالة العبيد في نظام الرق، فكان كلما اشتغل
ازداد عبودية و شقاء و تبعية، وجاءت الرأسمالية و كان مبدؤها الحرية في ميدان
العمل و الاقتصاد لكنها لم تكن حرية عامة لكل الناس، بل حرية لا يتمتع بها سوى
البرجوازيين الأثرياء و تبقى بدون معنى بالنسبة للعمال الذين يشقون طول حياتهم و
لا يحققون حتى حاجاتهم البيولوجية فكان العامل بروليتاريًا و كادحا، يشقى و يتعب و
لا ينال حتى حقه في التصرف في منتجاته.
يرى ماركس أن العمال في النظام الرأسمالي و جدوا
أنفسهم في وضيعة أجبوا فيها على بيع " أنفسهم و سلامتهم إلى درجة الرق و
الموت ".و لا يمكن أن يشعر العامل في ظروف كهذه بالحرية و إنما بالاستغلال و
الاستلاب، حيث يبيع جهده و قدرته الإنتاجية مقابل اجر زهيد.
ولقد
عرف الأجر في النظام الرأسمالي في القرن التاسع عشر أدنى مستوى عرفه التاريخ، فلم
يكن يساوي سوى تعويض الجهد المبذول، بينما تتمركز الثروة و وسائل الإنتاج في يد
عدد قليل من البرجوازيين، الذين يملكون و سائل الإنتاج و لا يعملون هكذا احتقرت
الرأسمالية الشغل و جعلته سلعة تباع و تشترى حسب قانون العرض و الطلب و احتقرت
العامل و جعلته و وسيلة للإنتاج، خاصة في العمل المتسلسل الذي دعا إليه تايلور
(1956/1915) و الذي أفقد العامل جانبه الروحي و الإنساني. فسلبت منه الآلة إنسانيته
ليتحول هو نفسه آلة، فالإنسان الذي كرر حركة جزئية على الدوام حسب فريدمان يقوم بها بعد قليل من الزمن
بشكل ميكانيكي، خال من أي شعور أو وعي ميزة الإنسان الذي يعي حركاته و أعماله.
وضعية
العامل في النظام الاشتراكي لا تختلف كثيرا عن وضعية العامل في النظام الرأسمالي
لقد نُظِرَ إليه هو أيضا على أنه و وسيلة للإنتاج و سلبت منه حريته في التعبير عن
اقتراحاته في تسيير الشغل فما كان عليه سوى تنفيذ أوامر الدولة التي تخطط الاقتصاد
و لم تعترف بحقه في الكسب و الملكية.
لكن
إذا كان الشغل عنوان العبودية و الألم و الظلم هل يمكن تصور حياة الإنسان بدون
الشغل ؟ هل يحقق الإنسان حريته في غياب الشغل ؟ و هذا لا يمكن طبعا و بدون نقاش،
فالشغل شرط أساسي من شروط الوجود الإنساني.
إن
الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على الشغل، ميزه الله عز و جل بعقل يتحد مع اليد
في عملية واحدة تغير الطبيعة و تعطي لها الوجهة التي يريد كما أنه شرط أساسي و
ضروري لتحقيق الحرية، فمعرفته بالطبيعة التي يتعامل معها بفضل الشغل تجعله يتحرر
من سيطرتها و أصبح الإنسان كما يقول هيجل (1770/1831) "يمتلك الطبيعة"،
إن السيد الذي انتصر على العبد عند هيجل و سخره لمصالحه يصبح عبدا عندما يعجز عن
التأثير في الطبيعة لاعتماده على العبد بينما يصبح العبد حرا، عندما يتعامل مع
الطبيعة، فيأثر فيها و يشكلها طوع إرادته.
إن
الشغل هو انتصار الإنسان على الطبيعة و علاج للاستلاب الإنساني، فهو كما يقول جون
لاكروا:" يضفي على الشيء المختلط العديم الصورة، شكلا إنسانيا." هذا
فيما يخص علاقة الإنسان بالطبيعة، أما بالنسبة لعلاقته بغيره من الناس، فان الشغل
بتوفيره للإنتاج الذي يحقق الحاجات المادية و البيولوجية، و يحرر الإنسان من
التبعية لغيره من الأفراد، و يحرر الأمم من التبعية لغيرها من الأمم، فالشغل
فاعلية لكسب القوت و الغذاء، ووسيلة لتحقيق الاكتفاء الذاتي و التحرر من التبعية
الاقتصادية.
و
إن كان الإنسان لا يشتغل فقط من أجل الغذاء فهو يشتغل أيضا لغايات أخرى ارفع و
أنبل، فمن الناحية النفسية أكدت التجارب في ميدان الطب النفسي، أن الكثير من
الإضطرابات النفسية كالقلق و الانطواء تخف عندما يكلف المريض ببعض الأشغال
البسيطة. يقول بيار جاني:" إن الشغل يخرج الإنسان من دائرته الضيقة كفرد،
ليتصل بغيره من الناس و يتصلون به." شعوره بان المجتمع يحتاج إليه و إلى
خدماته يرفع من معنوياته و ينمي في نفسه الاعتزاز بالنفس فيكون الشغل بذلك وسيلة
لتحرير الإنسان من العوائق الذاتية كالمخاوف و القلق و الانطواء. أما من الناحية
الأخلاقية فان الإنسان الذي يشتغل يرتبط بعمله ارتباطا روحيا، فيخلق عنده الرغبة
في الاعتماد على النفس فيحب عمله و يمجده، وهذا دليل على حرية الإنسان و شعوره
بالمسؤولية نحو نفسه و نحو مجتمعه.
إن الشغل يحمي الإنسان من الانحرافات
اللاأخلاقية و ذل السؤال و يرفعه إلى المكانة الإنسانية التي تليق به و هذا يتطلب
الشجاعة و الإرادة القوية للتغلب على مختلف الصعوبات، والعقبات التي تعترض طريقه.
لا يمطن للإنسان أن يتحرر من حتمية المجتمع إلا بالعمل، وخلق ضرب من التأثير بينه
م بين المجتمع، إن الشغل على الرغم من كونه إلزاما لا ينفي الحرية قدر ما يحققها،
كما أن الإلزام قد يتحول إلى يتحول إلى تعبير عن الإرادة و ليس قيدا، إذا نَبَعَ
من ذات الإنسان الذي يختار عمله، فيحب و يلتزم بأوقاته و قوانينه، فلا يشعر بالقيد
قدر ما يشعر بالمسؤولية و التحرر.
إن
الحرية هي إلزام كما يقول جون بول سارتر:"و إن كنا لا نستطيع أن ننكر أن
التاريخ سجل لنا بحبر اسود أنواعا من الاستغلال الذي سلب من العامل
إنسانيته." //إن الشغل، بَيْنَ ما يجب أن يكون و ما هو كائن في الواقع و بين
المستوى النظري و المستوى التطبيقي فرق كبير و إن كان ذلك لا يرجع لشغل في حد ذاته
و إنما الأنظمة الاقتصادية ليتقرب من الأبعاد الحقيقية للشغل. ففي أوربا و بعد
الأزمة الاقتصادية 1929، حاول الحكومة أن تحسن من مبادئ نظامها الرأسمالي لتقترب
من ايجابيات الشغل أكبر قدر ممكن، فحسنت ظروف العمل و حددت ساعات العمل و أيام
العطل حتى لا يشعر العابد باستعباد الشغل له كما حددت الحد الأدنى للأجر، ليتمكن
العامل من استهلاك إنتاجه، فيشعر بالراحة النفسية التي تجعله يحب عمله و يزيد في
الإنتاج و تغير النظام الرأسمالي من تقليدي إلى حديث، يحاول أن يعبر عن مطامح
العمال في شغل كريم و إن كان ما زال بعيدا عن تحقيق غايته على الرغم من كل
المجهودات التي تبذلها الدول الرأسمالية من أجل تحسين ظروف العامل، ما زال العامل
يشعر بالضغط و القيد في شغله، الأمر الذي يجعله يعاني من القلق النفسي الذي يعتبر
من أهم المظاهر السلبية للنظام الرأسمالي الحديث.
في
النهاية نتساءل: هل يمكن للإنسان أن يهتدي يوما إلى نظام اقتصادي يحد من التناقض
الموجود بين الشغل كإلزام و بين الحرية كنقيضة الإلزام نقول يحد لأن طابع الإلزام
في الشغل خاصية لا يمكن فصله عنها على الرغم من ذلك يبقى الشغل وسيلة للتحرر،
نتيجة نستنتجها من عملية صغيرة نقارن فيها بين ما يفتقده الإنسان إذا لم يشتعل و
ما يحققه إذا اشتغل و كانت الظروف ملائمة و إن كانت الحرية التي نحققها تبقى دائما
نسبيا.
الخاتمة: و هكذا نستنتج أن الشغل و وسيلة للتحرر، و بشرط أن
يجد النظام الاقتصادي الذي يسمح للعامل أن يحقق ذاته و يحررها من التبعية و إذا
كان هذا التحرر يبقى نسبيا، لا لشيء إلا لأن الحرية نفسها نسبية.