القائمة الرئيسية

الصفحات

العلاقات الأسرية والنظم الاقتصادية والسياسية







يمكنك قراءة الموضوع مباشرة أو تحميله من الرابط أسفله


الإشكالية الثانية: الأخلاق الموضوعية والأخلاق النسبية

المشكلة الثالثة: العلاقات الأسرية والنظم الاقتصادية والسياسية



مقدمة : طرح المشكلة
       من الحقائق المسلم بها أن الإنسان، لا يعيش في تفاعل مع الطبيعة فقط بل يعيش في جماعة، فهو كما يقول الفلاسفة وعلماء الاجتماع كائن اجتماعي بطبعه، لا يستطيع أن يحفظ وجوده في الواقع إلا من خلال الآخرين، ومن ثم نجد الإطار الاجتماعي بمثابة المبرر المنطقي من وراء ظهور المؤسسات والتنظيمات الثلاثة الأساسية: الأسرة، الاقتصاد، والدولة. لذلك وعلى ضوء التحولات الراهنة الحاصلة فيها، يتعين علينا أن نتساءل: إذا كان التغير الذي يتغلغل حياتنا اليومية، قد أصبح أمرا واقعا، أليس من الحكمة إعادة قراءة مكتسباتنا القيمية والتراثية في مجال العلاقات الأسرية ونظمنا الاقتصادية والسياسية ؟
I . كيف يمكن للأسرة أن ترتقي بمكتسبات وقيم التراث باتجاه معالجة مشكلاتها الجديدة ؟
أولا: الأسرة كيان اجتماعي متطور:
 إن الأسرة تساعد الفرد على الاندماج في المجتمع ليصير عضو فيه وفي الوقت نفسه عضوا في الأسرة، وإذا كانت الأسرة تعمل من أجل أن يبقى أفرادها على وفاء دائم لها في جميع أحوالها، فإن المجتمع لا يريد من الأسرة إلا أن تكون الحاضنة الأولى للأفراد تعدهم ليكونوا أفرادا في المجتمع وولاؤهم له.
1ـ الزواج أساس قيام الأسرة: لا تقوم الأسرة إلا على أساس الزواج، إذا كان المجتمع لا يتكون إلا من خلال أسر فإن الأسرة لا تقوم إلا على أساس الزواج، فهو اقتران بين رجل وامرأة لتكوين أسرة جديدة، وتختلف شروط عقده وفسخه والحقوق والواجبات المترتبة عليه باختلاف الجماعات، ومن ثم الزواج لا يكون إلا بين امرأة ورجل، وعليه هذه العلاقة قد تتعدد بينهما فتطرح أشكالا وأنماطا أساسية، فقد بدأ تطور الأسرة من حالة التنظيم المشاعي البدائي، ثم النظام الأميسي حيث السيطرة للأم، فالنظام الأبيسي حيث السيطرة للأب، وصولا إلى الصورة الحديثة للأسرة التي تقوم على الأحادية، وتتجلى الأسرة الأحادية من خلال زواج رجل واحد من امرأة واحدة وهي من الأشكال المفضلة في كثير من المجتمعات.
2 ـ من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النواة: لقد كان سائدا نوع من العائلات والذي كان منتشرا في كثير من مناطق العالم يدعى بالأسرة الممتدة، وهي تتكون من الزوج والزوجة والأولاد الذكور والإناث غير المتزوجين والمتزوجين وأولادهم وغيرهم من الأقارب كالعم والعمة والأبناء، وهؤلاء جميعا يقيمون في نفس المسكن ويشتركون في حياة اقتصادية واجتماعية واحدة تحت رئاسة الأب، فهي تتركب من أكثر من جيلين: جيل الأجداد، وجيل الآباء، وجيل الأحفاد. ولكن التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية لمجتمعاتنا الحالية أدت إلى انتشار الأسرة النواة التي تتكون من الزوجين وأبنائهما فقط، معنى هذا أنها تشمل جيلين: آباء وأبناء تربطهم علاقات اجتماعية واقتصادية وعاطفية وأخلاقية متبادلة.
ثانيا: مشكلاتها الوظيفية ( المواجهة والتكيف ):
إن الأسرة وإن وفرت الأمن الغذائي والملبس والمسكن للطفل، لكن تربيته بالمبالغة في مراقبة سلوكه تؤدي إلى شعوره بالملل والضيق، في مقابل ذلك يتجه الطفل إلى تحدي هذا الوضع بميله إلى إشباع رغباته بطريقة متخفية مع الاستعداد لتحمل ما يترتب عن ذلك من عقوبات، مما يدعونا إلى البحث في وظائفها ومشكلاتها:
1 ـ وظائف الأسرة:
أ ـ الوظيفة البيولوجية: فالأسرة هي المؤسسة الطبيعية، التي تساعد على إشباع الدوافع البيولوجية الغريزية، بمقتضى المعاشرة الزوجية المحددة شرعا وقانونا، والقائمة على أسس من التوافق والانسجام، وما يترتب عنها من عملية التناسل التي تحفظ بقاء النوع الإنساني واستمراره وترقيته وتنميته.
ب ـ الوظيفة الاجتماعية: تعتبر الأسرة الخلية الأولى التي منها يأخذ الأفراد المبادئ الاجتماعية، كاللغة، والدين، والعادات، والتقاليد، والأخلاق، وقواعد السلوك والآداب العامة... مما يسمح لهم بالانسجام والتعاون، وتبادل المصالح، والاشتراك في المصير ضمن بقية أفراد المجموعة التي يعيشون معها، كما تغرس فيهم معاني القيم والعلاقات، كحب الوالدين، الإخوة، الأقارب، الأصدقاء، الوطن...
ج ـ الوظيفة النفسية: الأسرة هي المؤسسة الأم في التغذية العاطفية والرعاية النفسية التي قوامها الرعاية والحنان والعطف والمحبة ... وهذه المعاني النفسية تشعر الأفراد بالراحة النفسية والاستقرار والتوازن، وتبعدهم عن الاضطراب والقلق والأزمات النفسية. وهذا يجعل من الأسرة مدرسة نفسية فعالة في إعداد الأفراد، وتزويدهم بالقدرة النفسية على التكيف والمواجهة في المستقبل.
د ـ الوظيفة الاقتصادية: إن لكل أسرة حاجاتها الأساسية كالمسكن والغذاء واللباس ووسائل الحياة الأخرى، وهي كلها حاجات ضرورية تقتضي مهمة اقتصادية من الأسرة، وجب السعي لتوفيرها لتحقيق الاستقرار لأفراد الأسرة، وإشباع مطالبهم، حتى لا يحدث التسيب والحاجة والفقر الذي يؤدي إلى الانحراف من بعض أفراد الأسرة.
2 ـ مشاكل الأسرة وتحدياتها:
لا يمكن حصر مشاكل الأسرة بدقة نتيجة تعددها وتنوعها، لكن ما نجزم به هو أن أكبر ما يتهدد الأسرة من الأمراض والمشاكل هو التفكك الأسري، واختلال الوحدة الأسرية وانحلالها، ومن أهم أسباب ذلك ؟
ـ الطلاق: الذي يعتبر إعلان بحل الأسرة وتصدعها وانهيارها، حيث يؤدي إلى تفكك أركان الأسرة  وما يترتب عن ذلك من آثار على أفرادها نفسيا وماديا وأخلاقيا.
ـ الظروف الاقتصادية: المستوى الاقتصادي للأسرة قد يكون من أهم العوامل الدافعة إلى تصدع الأسرة، وإحداث الصراع والتوتر داخلها، كضيق المسكن، الدخل الضعيف، الانشغال برفع المستوى الاقتصادي للأسرة والتغافل عن الواجبات الأسرية، خروج المرأة للعمل قصد المساعدة أو لإثبات ذاتها والتعبير عن حريتها، كل هذا يؤدي إلى ظهور الخلل في العلاقات الأسرية، وإضعاف الروابط بين أفراها.
ـ القيم الثقافية الجديدة: إن الأسرة بعاداتها وتقاليدها وقيمها التي تؤسس عليها نفسها، قد تكون عاجزة على تحقيق التكيف والتوافق مع متطلبات التغير الاجتماعي، وتحديات العولمة، والصراع الثقافي وما يحمله من اتجاهات ومفاهيم تؤثر بشدة على الأفراد والأطفال خصوصا وما ينتج عنهم من سلوكات وقيم فكرية تجعل من المتعذر على الأسر القيام بمهامها في توجيه أفرادها وضبط سلوكهم، وما ينتج عنه من صراع ولو خفي بين الآباء والأبناء.
وبناء على هذه المشاكل وغيرها نجد الأسرة أمام تحديات جديدة، بدايتها أن الأبناء ليسوا صورة طبق الأصل للآباء ولا لقيمهم واتجاهاتهم، مما يستدعي أن تكون العقلية الأسرية مرنة ومتكيفة مع مختلف الظروف والقيم والأفكار الجديدة لإحداث نوع من التوازن والانسجام بين التقاليد والقيم الأخلاقية، ومتطلبات العصر ومفاهيمه. من ناحية أخرى لا بد من تفعيل دور الأسرة وترقيتها كمؤسسة اجتماعية ناجعة تصون المجتمع وأخلاقه، وهذا يتطلب توعيتها وربطها وظيفيا مع المؤسسات التربوية والاجتماعية والثقافية، لتقوم بدورها القاعدي في الإعداد والتوجيه.
II. كيف يتأتى للعمل أن يرفع من شأن تلك المكتسبات والقيم في ضوء تحدي العولمة؟
أولا: من العمل إلى الاقتصاد ( المبادئ والنظم ):
1ـ  تطور المفهوم وإفرازاته الاقتصادية:
 ـ مفهوم العمل : العمل إحدى خصائص الإنسان الأساسية، منه يستمد قيمته الإنسانية، والاجتماعية، لأنه نشاط قصدي وهادف. وقد عرف أوجست كونت العمل على أنه: " التغيير النافع للمحيط من طرف الإنسان "
ومفهوم العمل تاريخيا نجده مفهوما متطورا بحسب طبيعة المجتمعات وقيمهم ونظرتهم إليه، فقد كان العمل الجسمي في القديم عنوان العبودية، فالمجتمع اليوناني مثلا وفلسفته خاصة مع أفلاطون وأرسطو اعتبرت العمل الجسمي بصفة عامة يحط من قيمة الإنسان، لهذا احتقرت العمل العضلي وجعلته خاصا بالعبيد، ولهذا كان الرق منتشرا في جميع الحضارات القديمة. ولما جاء الإسلام غير من النظرة إلى الشغل وأضفى عليه الجانب الإنساني الذي يحفظ كرامته ويصون قيمته، ومن ثم أصبح الشغل عبارة عن مجهود يقوم به الإنسان لإرضاء ربه ومجتمعه، وقد انفرد الإسلام بذلك دون سائر الديانات السماوية والوضعية الأخرى.
إن هذا التطور التاريخي الهام أفرز آثارا اقتصادية مما يستدعي الوقوف عند أبرزها:
ـ العمل أساس الثروة الإنتاجية.
ـ العمل أساس الملكية الفردية أو الجماعية.
ـ العمل أساس التعبير عن قيم المبادلة وتقسيم العمل والأدوار بين الأفراد.
إلا أن عمليات التملك ومبادلة الثروة الإنتاجية احتاجت إلى طريقة يتفق عليها تكون محكومة بمجموعة من الأفكار والقيم شكلت لاحقا مجمل النظم الاقتصادية المعروفة في العصر الحديث.
2 ـ النظم الاقتصادية وتوجهاتها:
 الاقتصاد الرأسمالي( الاقتصاد الحر ): إن هذا الاقتصاد يعود بالدرجة الأولى إلى الفيلسوف الاقتصادي الانجليزي    " آدم سميث " " 1723 ـ 1790 " حيث علل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. ومن هنا يكون الازدهار الاقتصادي ناتج عن الحرية الفردية، فحرية الملكية والاستغلال والاستهلاك من شأنها أن تخلق منافسة اقتصادية في المجتمع تنشط الأفراد وتبعث فيهم الحيوية وتدفعهم إلى التسابق نحو التفوق في العمل والإنتاج، وبالتالي إلى الإبداع، خاصة وأن الحياة الاقتصادية تسير حسب نظام طبيعي يتجاوز إرادة الإنسان، أي تتحكم فيها قوانين ثابتة مماثلة للقوانين التي تتحكم في الحياة الطبيعية، وما قانون العرض والطلب إلا دليل قاطع على ذلك، وهذا القانون لا ينطبق على البضاعة في السوق فحسب، بل ينطبق أيضا على مختلف القضايا الاجتماعية الأخرى كمشكلة العلاقة بين اليد العاملة والأجور.
الاقتصاد الاشتراكي: لقد أقام " كارل ماركس " " 1818 ـ 1883 " نظام الاقتصاد الاشتراكي على أسس مغايرة لأسس الاقتصاد الحر، حيث بناه على مبدأ الحرية الجماعية، ويظهر هذا المبدأ على الخصوص في تحويل الملكية الفردية إلى ملكية جماعية، وذلك عن طريق تأميم وسائل الإنتاج. والدولة في هذا النظام هي التي تأخذ زمام المبادرة في تنظيم الحياة الاقتصادية وتوجيهها. وهذا يعني أن الاقتصاد الاشتراكي يعتمد على التخطيط المركزي، وهو أسلوب في التنظيم يقوم على استخدام المواد على أفضل وجه ممكن لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنمو المتوازن للاقتصاد. ولكن تأميم وسائل الإنتاج والتخطيط في نظرهم لا يكفيان وحدهما لتحقيق الازدهار الاقتصادي والرخاء المادي، بل لا بد أن يصحبهما تغيير في أساليب الإنتاج والإدارة في الوحدات الاقتصادية بحيث يسير الشغل وفقا لإرادة الطبقة العاملة، وهي الطبقة التي يعمل الاقتصاد الاشتراكي على تلبية حاجاتها الأساسية كالتغذية والسكن والصحة والتعليم... وهذا من شأنه أن يقضي على الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، ويزيل كل مظاهر الاستغلال في المجتمع الاشتراكي، ولهذا كانت الغاية القصوى للاقتصاد الاشتراكي هي تحقيق العدالة الاجتماعية.
الاقتصاد الإسلامي: هو اقتصاد يستقي فلسفته وأركانه من مبادئ الشريعة الإسلامية وقيمه كوحي إلهي، ولهذا نجده ينطلق من قاعدة جوهرية عامة وهي أن المال مال الله، والأرض أرضه، والعباد عباده، وهم مستخلفون في أرضه وماله. وتتمثل مبادئ الاقتصاد الإسلامي في مبدأ الملكية المزدوجة فهو اقتصاد يعترف بحق الملكية للفرد والجماعة في آن واحد، وفق أساليب متوازنة تكفل مصلحتهما معا، ثم مبدأ الحرية الاقتصادية فالحرية والمنافسة في الاقتصاد الإسلامي مضمونة لكنها مشروطة ومضبوطة بحدود قيمية وأخلاقية، بالإضافة إلى مبدأ التكافل الاجتماعي كأساس لتحقيق العدالة الاجتماعية بطرق عملية وأخلاقية وذلك من خلال إقرار توازن اجتماعي والتقريب بين الطبقات اعتمادا على نظام الزكاة كوسيلة شرعية لتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع. ومن هنا يبرز نموذج الاقتصاد الإسلامي الذي يفاعل بين الممارسة الاقتصادية والروح الأخلاقية، فهو اقتصاد واقعي في مبادئه وتطبيقاته، أخلاقي في أهدافه وغاياته.
نتيجة: في الواقع الاقتصادي، وبعد فشل الاقتصاد الاشتراكي في عقر داره، ريادة الاقتصاد الرأسمالي، كقطبية أحادية تفرض نفسها كنموذج عالمي، وتصدر فلسفتها على المستوى الإنساني، على شكل عولمة تنسج خيوطها القوى الكبرى، وتظهرها كضرورة لازمة، وكأمر واقع لا بد منه، فكيف نرتقي بقيم العمل أمام تحديات العولمة ؟
ثانيا: قيم العمل وتحديات العولمة:
1 ـ قيم العمل في أبعاده الإنسانية: إن العمل هو إحدى خصائص الإنسان، منه يستمد قيمته الإنسانية والاجتماعية، وهو باعتباره نشاطا إنسانيا لا يقتصر على مجرد  تلبية الحاجات البيولوجية والمواد الضرورية لحياة الإنسان، بل يسمو بإنسانية الإنسان إلى مستوى التحرر من مجال الضرورة بأوسع معانيها، والتمكين للسيطرة على الطبيعة، وتغيير وجه العالم، والسعي للتحكم في معظم ظواهره، ومن ثمة إثبات ذاته وفعالية شخصيته. كما أن الإنسان يهدف بالعمل إلى أن يتحرر من العوائق الذاتية، والتخلص من الأنانية، ويسخره وسيلة لإبعاد القلق والرذيلة والحاجة.
ولكن كيف تستمر قيم العمل هذه أمام تحديات العولمة ومخاطرها؟
2 ـ تحديات العولمة ومشاكلها: إن العولمة كإستراتيجية تنموية جديدة، بجهاز قيادي جماعي للعالم، من طرف مصالح اقتصادية قوية عابرة للأمم وفوق الدول، هدفها السيطرة على العالم وجعله قرية كونية تحكمها لغة المال والأعمال والربح والاستغلال، كسوق عالمية كبرى مفتوحة ومتحررة وعابرة لكل الحدود، وما يترتب عن كل هذا هو إضعاف السيادة الوطنية للدول الضعيفة، والهيمنة الاقتصادية، وتهديد استقرار المجتمعات وقيمها. وعليه كان لابد من التفكير في إمكانية التعايش مع كيان العولمة كأمر واقع، والعمل على التصدي لأخطارها وذلك من خلال  عمل كل أمة على وعي رصيدها الحضاري، وبناء رؤية إستراتيجية لأهدافها التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية،
بالإضافة إلى تفعيل قيمة العمل والاجتهاد في بناء اقتصاد قوي، قادر على المنافسة والتحدي، وكذلك بناء استقرار سياسي وسلم اجتماعي في إطار وحدة وطنية ترفض الانهزام والاستسلام أمام الضغوط الخارجية.
كل هذا لا تتحقق ثماره عمليا إلا من خلال وعي قيمة العمل وبناء اقتصاد ناجح، وسياسة دولة تعي كيانها الحضاري وتعايش تحولات العصر.

III.هل بوسع الدولة أن تراهن على تفعيل تراثها القيمي بما يواكب تحولات العصر؟
1 ـ مفهوم الدولة: هي تجمع بشري يقطن بقعة جغرافية معينة بصفة دائمة ويخضع لنظام سياسي معين  كما أنه يتمتع بالسيادة الداخلية والخارجية.
2 ـ الأركان القانونية الأربعة للدولة:
 أ ـ التجمع البشري ( الشعب ) : المقصود بالتجمع البشري سكان الدولة أي المجموعة البشرية التي تعيش تحت سلطة الدولة ، وغالبا ما تكون هذه المجموعة ذات صفات مشتركة تربط بينهم وتساعد على تحقيق وحدتهم .
 ب ـ بقعة جغرافية ( الإقليم أو الأرض ) : لكل دولة إقليم جغرافي تمارس عليه سلطتها ونفوذها دون منازع ، ولا شك أن للإقليم الجغرافي دورا في تحديد الظروف الاقتصادية للدولة ورسم سياستها الخارجية .
 ج ـ النظام السياسي ( السلطة ) : إن قيام الدولة يفترض وجود سلطة عليا يخضع لها كل الأفراد والجماعات المكونة للدولة وهي تستند إلى هذه السلطة في وضع القوانين وفرض إلزاميتها على الجميع.
 د ـ السيادة ( الاستقلال ) : السيادة صفة من صفات الدولة ولها وجهان : سيادة داخلية تتمثل في إصدار الأوامر لجميع الأفراد ، وسيادة خارجية تظهر في حق تمثيل الدولة والتصرف باسمها مع  جميع الدول الأخرى، فالسيادة تعبر عن استقلال الدولة.
3 ـ وظيفة الدولة:
أ ـ حماية القيم الفردية والدفاع عنها: وظيفة الدولة أولا وقبل كل شيء هي مساعدة الفرد وتحسين ظروفه المتعلقة بالخدمة الاجتماعية والمصلحة العامة، والحفاظ على حياة الأشخاص وممتلكاتهم وحرياتهم، والسعي للتوفيق بين المصالح المتعارضة للمواطنين.
ب ـ غاية الدولة رعاية الصالح العام: الدولة في جوهرها هي دولة الشعب، لذلك من واجبها العمل على خدمته، وأن تسعى دوما وإيجابا لتحسين ظروف الحياة الاجتماعية ليأمن الناس على أرواحهم وأغراضهم ومعاشهم، ويمكن تحديد وظائف الرعاية فيما يلي:   
 ـ الرعاية الاقتصادية: تعتبر المطالب المعيشية  وطرق الحصول عليها، من أهم الدوافع وأقواها في حياة الإنسان والمجتمع، من هنا كان على الدولة كسلطة ذات سيادة، العمل على رعاية وخدمة الصالح العام اقتصاديا وتأمينه من الجوع، وذلك من خلال توفير ما من شأنه إشباع حاجاتهم الأساسية، وضمان الرعاية الصحية والتربية، والتعليم والترفيه والرياضة والسكن. 
ـ الرعاية السياسية: وتتمثل في الهيمنة التي تطالب بها وتمارسها الدولة على مجموع أعضائها، وذلك من مقتضيات السيادة التي هي مقوم من مقومات الدولة، ومن الوظيفة السياسية أيضا التشريع للمجتمع، وحمايته من الأخطار الداخلية والخارجية، ويلزم من هذا اضطلاع الدولة بتشريع الحقوق وحمايتها.
4 ـ أنظمة الحكم وأسس السلطة: إن علاقة الدولة بالمجتمع تأخذ صورا مختلفة وذلك باختلاف أنظمة الحكم وصور المشروعية فيها، وتتمثل هذه الأنظمة في :
أ ـ نظام الحكم الفردي : وهو نظام يقوم على أساس السياسة الفردية للحاكم، فالحاكم هو صاحب السيادة، لا يخضع للقانون، لان سلطته وإرادته هي القانون. ومن أهم صور هذا الحكم الفردي:
ـ الحكم الملكي: ويستند في وجوده واستمراره إلى قانون الوراثة الذي يضمن للأسرة بقاء سلطة الحكم داخلها.
ـ الحكم الاستبدادي: وهو الذي ينفرد فيه الحاكم بالسلطة ويصبح هو القانون،لا يؤمن بالمشاركة ولا يقبل بالمعارضة.
ـ الحكم التيوقراطي (الديني): وهو الذي يقوم على أساس أن الحاكم مفوض عن الله، ومعبر عن إرادته في الأرض، لهذا فالحاكم إرادته وأوامره مقدسة وجب طاعتها.
ب ـ نظام الحكم الجماعي أو ( الديمقراطي ) :الحكم الجماعي كل نظام سياسي يعتبر إرادة الشعب مصدرا لسلطة الحكام، فهو بذلك حكم ديمقراطي، والديمقراطية DEMOCRACY من الناحية الاشتقاقية هي كلمة يونانية الأصل تتكون من لفظين هما : ديموس ( Demos ) أي الشعب و كراتوس ( Kratos ) أي السلطة أو الحكومة ومعناه سلطة الشعب أو حكم الشعب. وبالتالي فالديمقراطية تعني سيادة الشعب وتقرير مصيره بإرادته، وحكم نفسه بنفسه.
والديمقراطية كحكم جماعي لها جذور تاريخية عميقة، كما أنها لا تتحقق في الواقع على صورة واحدة، بل هي أشكال فقد عبر عنها اليونانيون القدامى في شكل:
ـ الديمقراطية المباشرة: والتي جسدتها دولة المدينة في اليونان ( أثينا ) ، ( أسبرطة )... وهي تدل على المساواة بين جميع المواطنين، وإعطاء السيادة لهم ، في أخذ القرارات. غير أن هذا الشكل من الديمقراطية صار من المستحيل تطبيقه، وذلك للكثافة السكانية التي يستحيل أن تجمع كلها في مكان واحد.
ـ الديمقراطية التمثيلية ( النيابية ): بحيث يختار الشعب من يمثله وينوب عنه في ممارسة الحكم، والتعبير عن رأيه بالقبول أو المعارضة في إطار قانوني شرعي.
ـ الديمقراطية الليبيرالية: وهي تقوم على مبدأ الديمقراطية السياسية التي تهدف إلى تحقيق حرية الأفراد في المجتمع بشتى الوسائل كتعدد الأحزاب والجمعيات وحرية الصحافة والعبادات وغيرها ، وهذا يعني أنها تمجد حرية الفرد وتمنحه فرصا كثيرة لكي يعبر عن آرائه ومعتقداته فهو حر في أن يملك ما يشاء من الثروة ويستطيع أن يضاعفها وحر كذلك في تصرفاته وأعماله الخاصّة وهو في النهاية مسؤول عن نتائج أعماله.
ـ الديمقراطية الاشتراكية: وهي تقوم على مبدأ الديمقراطية الاجتماعية التي ترمي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بدلا من الحرية السياسية ، وذلك عن طريق تكافؤ الفرص ومحو الفوارق الطبقية بين الناس وإزالة الفقر والبؤس عن الطبقة العاملة التي هي مصدر الإنتاج والثروة في المجتمع.
5 ـ الديمقراطية بين القيم العالمية والخصوصيات المحلية: إن الحديث عن الديمقراطية هو حديث عن مبادئها التي تدعو إليها كاحترام الإرادة الشعبية، وإقرار الحريات، وتثبيت العدل والمساواة، لكن ما يدعو إلى التساؤل: هل الديمقراطية لباس على مقاس الجميع يمكن تعميمه أم أنها تقتضي شروطا اجتماعية وسياسية لازمة وبيئة ثقافية وفكرية تؤسس لها؟ إن لكل أمة هويتها وذاتيتها المتميزة، وخصوصياتها المحلية التي تطبعها، مما يحتم على كل أمة أن تختار النموذج السياسي المنسجم معها والمتوافق مع تركيبتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، لكن صارت الدول العظمى راعية الديمقراطية تصدر هذا النظام الديمقراطي للجميع بدعوى حقوق الإنسان، واحترام الحريات، وهذا ما جعلها تتدخل في شؤون الدول وخصوصيات الأمم، مما يجعل من الديمقراطية وكأنها إيديولوجيا مفروضة، وهذا ما يؤدي إلى ردود أفعال عكسية توقع في أزمات سياسية وأخلاقية، وانتهاك لسيادة الدول واستقلالها. لهذا من الحكمة قبل الحديث عن الديمقراطية وتطبيقها، تهيئة المناخ المناسب، وذلك بإعداد الإنسان الذي يؤمن بها ويشعر بحقيقتها كحرية وكاستقلال وككرامة يعبر بها عن ذاته، وهذا لا يكون إلا إذا عملت الدولة على تفعيل رصيدها من القيم وتحريك تراثها المعبر عن حقيقة الذات  الحضارية، ثم الانفتاح بإيجابية على التجارب الإنسانية الرائدة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستفادة منها.

خاتمة: حل المشكلة
العلاقات الإنسانية باختلاف مستوياتها مشروطة بالقيم، سواء على مستوى العلاقات الأسرية أو مجال العمل والأنظمة الاقتصادية، أو كيان الدولة والأنظمة السياسية، لهذا كان على كل أمة تسعى للحفاظ على كيانها واستمرار وجودها، الاهتمام بقيمها وإعادة الاعتبار لها وتفعيلها في حياة أفرادها على أسس متوازنة تمكن من التكيف والتأقلم مع مقتضيات العصر، لكن مع الحفاظ على الذات.


                                      تحميل الموضوع ( doc )