يمكنك قراءة الموضوع مباشرة أو تحميله من الرابط أسفله
|
السؤال : هل تعتقد
أن الشعور مبدأ كاف لمعرفة جميع أحوال
النفس؟
يقول أبو القاسم
الشابي في قصيدته "إرادة الحياة" < ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر >
|
إن النفس
الإنسانية غاية في التعقيد والغموض مما يجعل من الكشف عن حقيقة ماهيتها والإطلاع
عن أحوالها وأغوارها الداخلية العميقة طلبا مستعصيا أثارا خلافا وجدلا خصبا بين
الفلاسفة وعلماء النفس على حد سواء حيث نجد الخطاب النفسي الكلاسيكي يجعل من
الشعور عصبا للحياة النفسية من خلاله تحدس النفس أحوالها البعيدة وتعيها بينما
بالعكس يرى مؤسسيي التحليل النفسي أن
هذا المبدأ غير كاف للإحاطة بكنه النفس ومجالها الشاسع وأمام هذا الجدل تطرح
الإشكالية التالية نفسها: هل يمكن اعتبار مجال النفس مساوي لمجال الشعور؟ ومنه
هل يمكن للشعور معرفة جميع أحوال النفس؟
يرى التفسير
الكلاسيكي للنفس ممثلا خاصة في أب الفلسفة الحديثة روني ديكارت انها حقيقة
شعورية بل إنه يماهي بينها وبين الشعور فهو بالنسبة إليها بمثابة الروح للجسد
ومن هنا وجب الإقرار بأنه معرفة كاملة ومباشرة لخبايا النفس وخافيها العميقة.
فالإنسان عند ديكارت كائن شعوري يعي وجوده وعيا تاما بوعيه لكل ما يطرأ
على مستوى هذا الوجود من تغيرات وتبدلات عميقة ويؤسس ديكارت لمنطق تماهي النفس
والشعور انطلاقا من نظريته الثنائية في النفس والجسد وهنا يؤكد أن الإنسان في
حقيقته جوهر واحد مؤلف من جوهرين مستقلين ومتمايزين في الوجود والماهية الجسد
وطبيعته الإمتداد والنفس وطبيعتها الفكر وعليه فلا وجود خارج الحياة النفسية سوى
الحياة الفزيولوجية العضوية المرتبطة بالبدن لهذا نجده يقول <أنا أفكر إذن
أنا موجود> وحقيقة الكوجيتو هنا تدل على أن الفكر دالا على وجود النفس حيث
يقول<فعرفت من ذلك أني جوهر كل ماهيته أو طبيعته لا تقوم إلا على الفكر>والفكر
قائم على الوعي فمن غير الممكن للفكر أن يوجد دون أن يكون مصحوبا بالوعي ومن هنا
يصل ديكارت إلى حقيقة مهمة مفاده أن الحياة النفسية كلها حياة واعية ومن هنا
يكون الشعور هو المعبر عن حقيقة النفس لأنه كما يرى برغسون يتصف بالديمومة فابالرغم
من تغيره الشعور تيار متدفق بإستمرار لا يعرف التوقف والسكون فهو كالنهر الذي قد
يضعف سيله ولكنه لا يتوقف فلا ينعدم أبدا وهنا يقدم ديكارت مسلمته الرئيسية
الأولى وهي <كل ما هو نفسي شعور بالضرورة>وبتالي فما لا نشعره ليس من
الحياة النفسية في شيء لأنه لو كان منها للزم شعورنا به فمن التناقض القول بأن
النفس تشعر بما لا تشعر فهي تشعر لأن الحادثة التي تشعر بها موجودة أما إذا كانت
غير موجودة فإنه يستحيل الشعور بها لأن الشعور يتسع لكل الحياة النفسية وهو
مستقل عن البدن فما لا يقع تحت الشعور والوعي ليس نفسي بل فيزيولوجي مرتبط
بالبدن ذلك أن ثنائية الجسم والنفس قائمة على أساس التمييز بين اختصاص الجسم
بالامتداد واختصاص النفس بالوعي وبتالي فما خرج عن الوعي ليس هو من النفس في شيء
فمن الممتنع منطقيا وفق لمبدأ عدم التناقض أن تحمل الصفة ونقيضها على الشيء نفسه
في الوقت ذاته ومن هنا يؤسس ديكارت مسلمته الجوهرية الثانية وهي <مجال الحياة
النفسية مطابق لمجال الشعور ومساوي له تمام> وبتالي فما ليس شعوري ليس نفسي
بالضرورة وهي الصورة المقابلة للمسلمة الأولى وفقا لمبدأ المخالفة ومنه فالنتيجة
اللازمة من كل هذا هي أن الشعور يؤدي إلى معرفة كاملة بأحوال النفس ولما كان
الشعور معبرا عن ماهية النفس وملازما لها فإن النفس البشرية لا تنقطع عن الشعور
والتفكير إلا متى انعدم وجودها ويدعم ألان هذا الطرح عندما يحكم باستحالة تصور
عقلا لا يعقل ولا نفسا لا تشعر حيث يقول <إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر دون
أن يشعر بتفكيره > ولما كان وجود النفس
هنا مرادفا للوعي بها فمن التناقض القول بوجود حوادث نفسية لا نشعر بها لأن هذا
يعني عدم وجود النفس إطلاقا ويستثني ديكارت من ذلك بعض النشاطات الفيزيولوجية
الآلية التي تحدث دون وعي منا كانقسام الخلايا الجسمية وتكاثرها.
لقد تمكن هذا الطرح
من تفسير حقيقة الشعور وخصائصه الجوهرية وهي تعد إضافة بالنسبة لعلم النفس ولكنه
بالمقابل لم يتمكن من البرهنة على أنه الحقيقة الكاملة للنفس وماهيتها الوحيدة
فلو كان مجال الشعور مساوي لمجال النفس لكان بالإمكان تفسير كل سلوكات النفس
وتصرفاتها والوعي بها لكن الواقع يثبت أن النفس في كثير من الأحيان تصدر سلوكات
تعجز عن معرفة دوافعها ومبرراتها مثل زلات القلم وفلتات اللسان وبتالي فلا يمكن
موافقة هذا الطرح في قوله بأن الشعور مبدأ وحيد للحياة النفسية وهو ما يفترض
وجود مبدأ آخر مكمل.
وخلافا
للطرح الكلاسيكي يرى فرويد ومؤيديه من أصحاب التحليل النفسي أن مجال النفس أوسع
من مجال الشعور الذي لا يحتل سوى جزء صغيرا ومحدودا منه فالعقل عنده شبيه بقطعة
الثلج التي يطفو جزء منها فوق الماء بينما يبقى معظمها مختف تحت السطح لهذا فتحت
سطح الشعور والوعي توجد الكثير من الرغبات والدوافع المكبوتة في مجال اللاشعور.
فزلات القلم
والأحلام وغيرها من السلوكات اللاإرادية وغير الواعية يبقى الشعور عاجزا أمام
تفسيرها وإعطائها معنى شعوري لذلك لجأ سيجموند فرويد إلى تحليلها نفسيا من أجل
الكشف عن حقيقتها وتوصل عن طريق هذا المنهج إلى أن كل تلك السلوكات ما هي في
الأصل إلا تجسيد لرغبات وأهواء مكبوتة ومخفية ومن أجل تحليل عملية الكبة
وتعريفها يصل فرويد إلى تقسيم الجهاز النفسي لثلاث مستويات الهو وهو مستودع الطاقات الغريزية ومجموع الدوافع الغريزية
الفطرية في الإنسان الوثيقة الصلة بالناحية الجسمية البيولوجية والمتحررة كليا
من القواعد الأخلاقية وسلطة الضمير ولذلك فإن الهو يعبر عن <الواقع النفسي
الحقيقي>كما يقول فرويد من ميزاتها أنها لا تراعي أحكام العقل والدين أما
المستوى الثاني فهو الأنا الأعلى و ويتمثل في مجموع القيم والقواعد الأخلاقية
والدينية التي يفرضها المجتمع ويكتسبها الطفل من تربيت الوالدين والتي يحل بدل
عنها الضمير السامي كسلطة مراقبة داخلية تكبح غرائز الهو وتجبرها على التكيف مع
القيم السامية و تتجسد هذه السلطة في صيغتين محوريتين "يجب أن"
و"يجب أن لا"وحسب فرويد تعرف الحياة النفسية صراعا حادا بين
الهو و الأنا الأعلى أي بين قوة غريزية غير مهذبة تريد الإشباع وبين الضمير
الأخلاقي الذي يمثل سلطة رادعة تمنعها من الإشباع إلا ضمن قيم وأخلاق المجتمع
وهنا يتدخل الأنا لفك هذا الصراع وإحداث التوازن بينهما و هو المستوى الثالث من
مستويات النفس الذي يعمل على تحقيق
التكيف حيث يعمل على إشباع جزء من رغبات الهو مع
مراعاة قيم الأنا الأعلى في نفس الوقت ويرى فرويد أن الجزء المتبقي من رغبات
الهوى التي لا تتحقق ستحال إلى اللاشعور لكنها بالمقابل لا تستسلم بل تعمل جاهدة
على العودة إلى ساحة الشعور متحايلة عليه في شكل أحلام وزرت قلم وفلتات لسان
يعجز الشعور عن تفسيرها ومن هذا المنطلق يثبت فرويد وجود علاقة سببية بين
الرغبات المكبوتة والاضطرابات النفسية العادية والمرضية حيث يقول <فليس مدلول
الأعراض لا شعوريا فحسب،بل إنه يوجد بين هذا اللاشعور وإمكان وجود الأعراض علاقة
تتمثل في قيام أحداهما مقام الآخر> وعليه فلا يمكن القول أن الشعور مبدأ وحيد
للنفس لأن النفس الإنسانية أوسع من الحياة الشعورية والاقتصار على الشعور فقط
يبقي مجال واسع من النفس مخفي لهذا يؤكد فرويد أن للنفس الإنسانية مجالين
ومبدأين هما الشعور واللاشعور حيث نجده يقول<إن تقسيم الحياة النفسية إلى ما
هو شعوري وما هو لا شعوري هو الفرض الأساسي الذي يقوم عليه التحليل النفسي>.
إن فرويد قد ساهم
بشكل كبير في تفسير الحياة النفسية واكتشاف اللاشعور كإضافة عليمة لا يستهان بها
في علم النفس لكنه بالمقابل بالغ عندما جعل من الحياة اللاشعورية موجها ومتحكما
في الحياة الشعورية كما أن مستويات الجهاز النفس التي يقدمها تجعل النفس وكأنها
في صراع دائم لا يعرف الاستقرار مطلقا وهذا ما لم يثبت في علم النفس.
إذا كان الشعور
حقيقة نفسية يستحيل إنكارها أو رفضها كوسيلة ضرورية لاغنى عنها تمكن النفس من
حدس أحوالها ونشاطاتها العميقة بطريقة مباشرة دون واسطة فإنها بالمقابل غير
كافية للكشف عن كامل مجال النفس وأغوارها الدفينة وهو ما يؤدي بنا إلى التسليم
بوجود مجال مخفي من النفس هو مجال اللاشعور وعليه تتراوح الحياة النفسية بين
هذين المبدأين أي فيها ما هو شعوري واعي وفيها ما هو لا شعوري غير واعي لذا فإن
معرفة النفس معرفة كاملة يستوجب الإحاطة الكاملة بهذين المجالين وهو ما يتعذر
بلوغه علميا وفلسفيا لهذا تبقى معرفة الإنسان بنفسه معرفة ناقصة يشوبها الغموض .
ومن
كل ما سبق من تحليل نستنتج أن النفس عالم غامض ومتقلب الأحوال والمزاج مما يجعل
من الإحاطة بأعماقها وما تتضمنه من خواطر وأهواء عميقة إحاطة كاملة محاولة معقدة
تستدعي المزج بين قدرة الذات عن الحدس الشعوري المباشر لدواخلها و قدرة المحلل
النفسي في الكشف عما هو لاشعوري لذلك فإن هذه النفس يجتمع في تفسير طبيعتها
وحقيقتها مبدأين جوهريين هما الشعور واللاشعور.
الفقير إلى رحمة الله
وإلى دعواتكم أخوكم في الله ومحبكم فيه أستاذ المادة:دلسي محمد
|