يمكنك قراءة الموضوع مباشرة أو تحميله من الرابط أسفله
|
السؤال
:هل تعتقد أن تحقيق التوازن الاجتماعي مبني على إلغاء الفوارق الفردية بين الناس ؟
|
إن
الإنسان مدني بالطبع فهو بنزع نحو حياة الجماعة والتمدن ولهذه الحياة قواعد وقيم
تنظمها وتسيرها وفق أسس ومبادئ تضمن تحقيق التوازن والعدل ومن هذا المنطلق تعد
العدالة مبدأ ضروري لاستمرار حياة المجتمع ورقيها من الناحيتين الأخلاقية
والاقتصادية لكن تجسيد العدالة واقعيا مبني على المبادئ الفلسفية المجردة للعدل
كمفهوم نظري وهنا بالذات يبرز خلاف بين الفلاسفة في تحديد طبيعة تلك الأسس فمنهم
من يرى أن المساواة شرط طبيعي لتجسيد العدالة بينما رأى بالعكس البعض الآخر أن
التفاوت تعبيرا عن أصل الفطرة الإنسانية المتفاوتة في المواهب والقدرات وعلى هذا
تبرز إشكالية تطرح نفسها بإلحاح هي :هل تحقيق العدل يتطلب تحقيق المساواة ؟ أم
تكريس مبدأ التفاوت؟
يرى
بعض الفلاسفة كأفلاطون وألكسيس كارل وأنصار النظام الليبرالي أن العدالة
الاجتماعية قيمة خلقية ضرورية لحياة المجتمع لا يمكن بلوغها وتجسيدها إلا من
خلال تحقيق التفاوت بين الناس كل حسب قدراتهم وإمكانياتهم .
ويبرر
أصحاب هذا الطرح موقفهم من الناحية الطبيعية حيث يقرون بأن العدالة تقوم على
أساس موافقة الطبيعة الإنسانية الفطرية وهذه الطبيعة نفسها مختلفة ومتفاوتة فلا
يمكن إذن المساواة بين من فرقت بينهم الطبيعة في القدرات والمواهب لأن هذا يقتل
الإبداع ويحد من موهبة المتفوقين ومن هنا كان من الظلم المساواة بين أنس مختلفون بالولادة في المجال
البيولوجي والسيكولوجي والاجتماعي فهم مختلفون في بنياتهم الجسمانية والمورفولوجية
فمنهم القوي ومنهم الضعيف ومختلفون في قدراتهم العقلية فمنهم الذكي ومنهم ضعيف
الذهن فالتفاوت كما يؤكد ذلك أرسطو هو قانون الطبيعة الإنسانية ويعبر عن هذا
بشكل أكثر جذرية ألكسيس كارل عندما يقول <من الظلم المساواة بين
اللامساوة> وعليه فلا بد من إتاحة الفرصة أمام المتفوقون وأصحاب القدرات العالية
من أجل الإبداع والتعبير عن إمكانيتهم بغرض ترقية الوجود الإنساني وتطويره في
سبيل الوصول إلى الإنسان الأرقى ولن يكون ذلك إلا بإلغاء فكرة المساواة من قاموس
الحياة الاجتماعية لأنها تلغي الفروق الفردية الطبيعية وتجعل من المتفوق والفاشل
في مرتبة واحدة وهذا ما يعود بالسلب على المجتمع من جميع النواحي لهذا يقدم
ألكسيس كارل القاعدة الاجتماعية التالية<
بدلا من محاولة تحقيق المساواة بين اللامساواة الجسمية والعقلية يجب أن
نوسع من دائرة الاختلافات وننشئ رجال عظماء> وقد سبق أفلاطون كل هذه الآراء
إلى الدفاع عن فكرة التفاوت حيث يعتقد أن الناس يولدون متفاوتون بالفطرة وهو
يصنفهم إلى ثلاث مراتب من منطلق تقسمه قوى النفس إلى ثلاث مراتب تقابلها ثلاث طبقات على المستوى الاجتماعي
فهناك من يولدون وهم يحملون النفس الناطقة
وهي نفس خالدة تدرك عالم المثل وهؤلاء هم الفلاسفة التي تكون وظيفتهم
الحكم وفضيلتهم الحكمة يليهم أصحاب القوة الغاضبة وهي نفس فانية وهم طبقة الجند المتمثلة
مهمتهم في الدفاع عن المدينة وفضيلتهم هي الشجاعة أما أدنى مراتب النفس عند
أفلاطون فه القوة الشهوانية وهم العامة من الصناع والحرفين الذين يتكفلون بتوفير
الغذاء والخدمات للطبقتين السالفتين وتكمن فضيلتهم في العفة ويسمي أفلاطون حالة
التوازن هذه بالعدالة أي أنها الفضيلة الرابعة التي تنشأ من اجتماع ثلاث فضائل
تسبقها بالضرورة هي الحكمة والشجاعة والعفة حيث يأخذ كل إنسان مكانه الطبيعي في
المجتمع الذي تؤهله إليه قدراته وكفاءاته
وفطرته لهذا نجد أفلاطون ينتقد بشدة النظام الديمقراطي الذي يخل بهذا
التوازن ويعطي الحق في السلطة للعامة من الناس رغم أن قدراتهم العقلية لا تؤهلهم
لقيادة المجتمع وتتجسد مبادئ نظرية التفاوت بشكل أكثر وضوحا وواقعية من الناحية
الاقتصادية عند النظام الليبرالي الرأس مالي الذي يرفض المساواة بين الغني
المالك للمنتجات الاجتماعية والفقير الذي لا يقدم أي إنتاج لهذا دافع آدم سميث
على مبدأ المنافسة الحرة من خلال شعاره المشهور<دعه يعمل دعه يمر>.
إن
التفاوت بين أفراد المجتمع أمر لا يمكن إنكاره أو جحده فهو مشروع من الناحية
الاجتماعية وهذا ما وفق أصحاب هذا الطرح في بيانه وإثباته لكن من جهة مقابلة لا
يمكن أن يتخذ من هذا المبدأ ذريعة لتبرير الاستغلال الاجتماعي والاستعمار الذي أنتجه النظام الليبرالي الذي صنف الدول
إلى مستعمرة ومستعمرة كما قسم المجتمع إلى طبقة ضيقة تمتلك المال والثروة وأخرى
فقيرة فهنا يحول التفاوت من مبدأ للعدل
إلى مبدأ لتجسيد الظلم والجور وهو ما
أثبته الواقع السياسي والاقتصادي المعاصر.
ونقيض الطرح السالف يرى فلاسفة القانون الطبيعي
والنظرية الشيوعية الاشتراكية أن المساواة صوت الطبيعة الإنسانية الحقيقي وعليه
فلا بد من أن تكون شعارا مطلقا في سبيل تحقيق عدالة اجتماعية تساوي بين جميع
الإفراد في الحقوق والواجبات.
حيث يتفق أصحاب هذا الطرح مع موقف التفاوت في كون
العدالة الإنسانية تكمن في تحقيق الانسجام مع الطبيعة الإنسانية لكنهم يخالفونهم
في القول بأن الفطرة الإنسانية واحدة ومتساوية بين جميع الناس فالبشر جميعهم
يولدون متساوون في القدرة العقلية والجسمية وما الاختلاف بينهم إلا من وضع
الأحوال والظروف التي فرضها نظام التفاوت ولهذا فمن الظلم الإبقاء على هذه
المفارقات لهذا جاء في نص إعلان الاستقلال الأمريكي <إن جميع الناس قد خلقوا
متساوين> وهو ما يؤيده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان <الأفراد يولدون
ويعيشون متساوين> ويبرر فلاسفة القانون الطبيعي هذه الرؤيا من منطلق النظرة
إلى الإنسان كغاية في ذاته أي الإنسان باعتباره إنسان فالفطرة تحكم باشتراك جميع البشر في الماهية
العقلية لهذا يقول ديكارت <إن العقل هو أعدل قسمة بين الناس > فالناس كما
يرى جون لوك خلقوا جميعا بطرية واحدة ومن نوع واحد وبتالي لهم جميعا القدرات
الطبيعية نفسها لهذا فوجب أن يكون متساوين في المجال الاجتماعي أيضا حيث يقول
الخطيب الروماني شيشرون<الناس سواء وليس شيء أشبه بشيء من الإنسان بالإنسان
لنا جميعا عقول ولنا حواس وإن اختلفنا في العلم فنحن متساوون في القدرة على
التعلم> ولهذا يحكم كارل ماركس بأن سبب ظهور الأزمات الاجتماعية مرده إلى
النظام الرأس مالي الذي كرس التفاوت والطبقية في المجتمع لذى فلابد من القضاء
على التفاوت لأنه ليس من صنع الطبيعة بل من صنع المجتمع وعليه فإحلال العدالة
الاجتماعية يقتضي إلغاء الفوارق بين الطبقات وتأسيس طبقة اجتماعية واحدة تقوم
على مبدأ المساواة والاشتراك في الملكية
المشتركة لوسائل الإنتاج وإذا كانت هذه دعوة للمساواة على المجال الاقتصادي فقد
سبقتها دعوة للمساواة من الجانب الفكري قادها فلاسفة التنوير في مواجهة احتكار
الكنسية لتأويل الكتاب المقدس حيث يقول فولتير<إن أولئك الذين ينادون
بالمساواة بين الناس يقولون صدقا لو عنوا بقولهم مساواة الناس في الحرية والفرصة
وامتلاك الأشياء وحماية القانون> ومن أجل هذا نجد أن معظم الثورات في العالم
رفعت شعار المساواة ومحاربة التفاوت والتميز بين الناس ويبدو ذلك واضحا في مبادئ
الثورة الفرنسية <الأخوة ، الحرية ، المساواة >
إن الدعوة إلى المساواة بين الناس فكرة نبيلة من
الناحية الأخلاقية خاصة من جهة معاملة الإنسان كإنسان أي كقيمة في ذاته دون
النظر إلى مكاسبه وظروفه المادية وهو ما يحسب لصالح هذا الطرح لكن بالمقابل فإن
المساواة المطلقة قد تتحول هي نفسها إلى ظلم من غير المقبول المساواة بين
المجتهد والكسول وبين المتفوق والفاشل لأنه هذا يؤسس للتكاسل وتعطيل الإبداع
والمنافسة الإيجابية كما أن أفكار الفلسفة الاشتراكية أفكار طوباوية لا يمكن تجسيدها واقعيا.
ومن الرأيين السالفين يبدو أن تحقيق التوازن
الاجتماعي لا يقوم على المساواة المطلقة
ولا على التفاوت المطلق بل على النسبة بينهما ففي جوانب من الحياة الاجتماعية
تفرض المساواة نفسها كضرورة أخلاقية مثل المساواة في الحرية والتعليم كما يفرض
التفاوت نفسه في مواضع أخرى مثل القدرة على التعلم والإبداع وهو ما يجسده مبدأ
تكافؤ الفرص الذي يمزج بين المبدأين السالفين ومثال ذلك أن جميع الأفراد متساوون
في التعلم لكن بعد ذلك فروقهم الفردية هي التي تحدد المتفوقين والراسبين كل حسب
اجتهاده وقدراته العقلية.
وكل الأفكار المتضمنة في التحليل السابق تجعلنا نستنتج أن العدالة
الاجتماعية مبدأ ضروري لا يمكن الاستغناء عنه أو التفريط فيه وهي مبنية على أساس
تحقيق التوازن المبني على مبدأ تكافؤ الفرص هذا الأخير يمزج بين التفاوت
والمساواة كل في موضعه وتوظيفه الإيجابي حيث تمنح الفرص بالتساوي لجميع الناس ثم يتم بعد ذلك اختيار الأفضل
والأجدر وبهذا يوفى كل ذي حق حقه دون ظلم وجور وهو ما يؤسس لحياة اجتماعية راقية
وعادلة. أستاذ
المادة :دلسي محمد
|