يمكنك قراءة الموضوع مباشرة أو تحميله من الرابط أسفله
|
السؤال:
هل الأخلاق نسبية أم مطلقة؟
|
إن الإنسان مدني
بالطبع فهو يعش ضمن جماعة تحكمها قيم وأخلاق تسير شؤونها وتدبرها بهدف ترقية
سلوك الإنسان وتهذيبه في سبيل بلوغ الحياة السعيدة فرديا وجماعيا ومن هنا كانت
الأخلاق والبحث عن معيارها مبحثا فلسفيا خصبا اختلف حوله الفلاسفة وتناقضوا حيث
هناك من رأى أن القيم الأخلاقية مبادئ مطلقة وثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان وهناك فريق
آخر من الفلاسفة ناقض ها الطرح وقرر أن الأخلاق سلوكات ومعاملات متغيرة ونسبية
وأمام هذا الجدال الفلسفي نتساءل هل الأخلاق قيم ثابتة ومطلقة؟أم أنها على العكس
من ذلك معاملات متغيرة ونسبية؟
يرى أنصار النزعة العقلية والطرح الديني أن الأخلاق قيم
ومبادئ ثابتة وكلية وهو ما يجعل منها مشتركة ومطلقة مستقلة عن ذاتية الإنسان.
حيث يرى أصحاب
التوجه الديني كالفقهاء وابن حزم أن الأخلاق الدينية مصدرها الإرادة الإلهية
المتجسدة في أوامر الله ونواهيه ومعيار الفعل الأخلاقي عندهم هو أننا عندما نفعل
فعلا ينبغي أن يكون مطابقا لما أراده الله أمرا أو نهيا ولاشك أن إرادة الله
مطلقة وثابتة لا تتغير وبتالي فالأخلاق الدينية المجسدة لتلك الإرادة لابد أن
تكون هي أيضا مطلقة وكلية وتؤكد هذا الموقف أيضا فرقة الأشاعرة التي ترى أن الأفعال
ليس في ذاتها ما يجعلها خيرا أو شرا وإنما أوامر الله أو نواهيه هي التي تجعلها خيرا
أو شرا فالفعل خير لأنه من أمر الله وليس في ذاته ويستطيع الله أن يغير من وصفه
كما شاء.
ويساند أصحاب
المذهب العقلي الموقف الديني في كون الأخلاق مطلقة لكنهم يختلفون عنهم في إرجاع
مصدرها إلى العقل كسلطة مشرعة للقيم الأخلاقية الثابتة ويعتبر أفلاطون من أوائل
ممثلي هذا الاتجاه الذي ناقض السفسطائية في جعلهم الإنسان مقياس للخير والشر حيث
يقول "إن الإله مقياس الأشياء جميعا " وعلى هذا الأساس يرى
أفلاطون أن عالم الحس الذي نعيشه وندركه بحواسنا ما هو إلا ظل والعالم الحقيقي
هو عالم المثل الذي يحوي الحقائق المطلقة بمن فيها القيم الأخلاقية وعلى هذا يرى
أن العدل المطلق والجمال المطلق والخير الأسمى معاير توجد في عالم المثل ولا
يمكن أن يصل الإنسان إليها بحواسه لأن النسبي لا يدرك المطلق بل إن عالم المثل
وما فيه من معاير ثابتة تحملها روحه منذ الأزل لذلك فهو يتذكر القيم الأخلاقية عن
طريق التأمل العقلي والتجرد من عالم الحس ومنه فالقيم الأخلاقية في نظر أفلاطون
ذات كيان مستقل وثابت وهو ما يجعلها موضوعية ومطلقة،كما نجد إيمانوال كانط مؤسس
أخلاق الواجب في مقابل أخلاق السعادة الكلاسيكية يعتبر العقل مصدرا للقواعد
الأخلاقية فالفعل الأخلاقي عنده مرتبط بالواجب وليس بالسعادة والفعل الإنساني
عنده قد يكون طبقا للواجب أو بدافع للواجب أما الأول فيكون بصور مختلفة مثل
الإكراه أو بدافع الخوف من القانون أو المنفعة مثل التاجر الذي يستقيم مع زبائنه
قد يفعل ذلك طبقا للواجب لكن بدافع المنفعة وهذا الفعل ليس أخلاقيا وقد يكون بدافع الواجب
في ذاته وهو فعل بدافع الإرادة نفسها أي دون دافع خارجي وهو الفعل الأخلاقي الذي
يجعله كانط مرتبطا بالإرادة الحرة والتي تتلقى أوامرها من العقل ويميز كانط أيضا
بين نوعين من الأوامر الصادرة عن العقل أوامر شرطية ترتبط بغايات خارجية تعتبر
شرطا لها هي أوامر لا أخلاقية لأن الإرادة فيها تكون مقيدة بتلك الغايات
الخارجية وأوامر قطعية تجعل من الفعل ضروريا لذاته لا لهدف أخر وهو قبلي غير مستمد
من التجربة بل إنه يربط الإرادة بقانون عقلي محض يتميز بالكلية والشمولية وبكونه
مطلق وبهذا يكون هذا الأمر القطعي مصدرا للفعل الأخلاقي لأن الإرادة فيه تكون
حرة وغاية في ذاتها وبما أنه يتميز بالكلية والشمولية والثبات فإن الأخلاق الصادرة
عنه تكون هي أيضا مطلقة وثابتة حيث يقول كانط واصفا الفعل الأخلاقي "إن
الفعل الأخلاقي الذي يتم بدافع الواجب إنما يستمد قيمته الخلقية لا من الهدف
الذي يلزم تحقيقه بل من القاعدة التي تقرر تبعها لها" ويقول أيضا
"الإرادة الخيرة لا تكون خيرة بما تحدثه من أثر أو تحرزه من نجاح ولا بصلاحيتها
للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك بل أنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده أعني
أنها خيرة في ذاتها" ويضع كانط لهذا الأمر القطعي صيغة إجمالية وصيغ
متفرعة عنها هي:افعل الفعل كما لو كان على مسلمة فعلك أن ترتفع عن طريق إرادتك
إلى قانون طبيعي عام،افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص الآخرين
بوصفها دائما غاية في ذاتها ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة،افعل الفعل
بحيث تكون إرادتك تستطيع أن تعتبر نفسها هي المشرعة للقانون العام الذي تخضع له
ومن هنا كانت الأخلاق الكانطية أخلاق سامية معبرة عن أرادة الإنسان الحرة.
لكن وان كانت
النظرة الدينية والعقلية تحاول تأسيس أخلاق سامية ومشتركة إلا أن الواقع يثبت أن
القيم الأخلاقية ليست واحدة بل هي متعددة كما أن أحكام العقل لا يمكن اعتبارها
مطلقة وثابتة لأن العقل في ذاته قاصر ومنه فلا يمكن أن يكون مشرعا للأخلاق
المطلقة بالإضافة إلى أن الأخلاق الكانطية غاية في الطوباوية والمثالية مما يجعل
تجسيدها في الواقع صعبا أن لم يكن مستحيلا لهذا قال بيجي "يدا كانط نقيتان ولكنه
لا يملك يدين".
وخلافا للطرح السالف يرى أصحاب أخلاق اللذة وممثلي المدرسة الاجتماعية أن
الأخلاق معاملات نسبية متغيرة بين الأفراد والمجتمعات وهو ما يجعلها سلوكيات
خاصة وذاتية.
حيث ترى المدرسة الاجتماعية بزعامة دوركايم أن الخير هو ما يمليه المجتمع على الفرد من
عادات وقيم يلزمه على التمسك بها إذ يقول " حين يتكلم ضميرنا فإن
المجتمع هو الذي يتكلم فينا" وهو يشبه هذا القهر الاجتماعي على الفرد
بالهواء الذي نتنفسه دون أن نشعر بقيمته ووزنه ومنه فمصدر القيم الأخلاقية يعود
إلى ثقافة المجتمع ولا شك أن هذه الثقافة متغيرة ومتعددة بين المجتمعات بل إنها
مختلفة في المجتمع الواحد ضمن مرحلتين زمنيتين من تاريخه فقيم المجتمع الجزائري
في الثمانينات ليست هي نفسها قيمه في اليوم الحاضر كما أن قيم المجتمع الغربي
تختلف تماما عن قيم المجتمع الإسلامي فنجد الغرب مثلا ينظر إلى الحجاب على أنه
تشويه لصورة المرأة وحط من قيمتها بينما نجده عند المسلمين قيمة عليا تصون شرف
المرأة وهذه النظرة المختلفة للحجاب نابعة من الثقافتين المختلفتين ومنه يؤكد
دوركايم أن الثقافة الاجتماعية مختلفة ومتغيرة ولما كانت هي المصدر الوحيد
للأخلاق فلا بد أن تكون الأخلاق سلوكيات متغيرة ونسبية لأن مصدرها متغير
باستمرار حيث نجده يقول "فالمجتمع ليس سلطة أخلاقية فحسب بل إن كل الدلائل تؤكد أن المجتمع هو
النموذج والمصدر لكل سلطة أخلاقية ولابد أن تكون أخلاق الفرد هي الأخلاق التي
يتطلبها المجتمع بالضبط"
ويؤيد النفعين الاجتماعين في كون الأخلاق نسبية رغم مخالفتهم في مصدرها
حيث يرى أبيقور وأرستيب وبنتام أن تحقيق السعادة تكمن في موافقة الطبيعة البشرية
والتي حسبهم لا تختلف عن الطبيعة الحيوانية فالإنسان ينجذب بغريزته الطبيعية نحو
اللذة وينفر من الألم ومنه فسعادته تكمن في تحقيق ما يلاءم طبيعته وألمه فيما
يخالفها وإذا اعتبرنا السعادة غاية إنسانية سامية لا تتحقق إلا باللذة فستكون
هذه اللذة عندها هي أصل كل خير ونجد أبيقور يجمع كل هذا الكلام في قوله "إن
مقياس الخير هو اللذة ومفارقة الألم وهذا الشيء لا حاجة لنا إلى البرهنة عليه
فالطبيعة في كل أنواع سلوكها تكشف عنه" ويقول أرستيب "اللذة هي
الخير الأعظم وهي مقياس القيم جميعا هذا هو صوت الطبيعة فلا خجل ولا حياء "
ومن هنا فهدف الأخلاق الجوهري هو التحرر من الألم وتحصيل اللذة ولذلك يضع أبيقور
بعض القواعد التي تنظم اللذة وتضمن عدم الوقوع في الألم من بيتها قبول الألم الذي
تعقبه اللذة وتجنب اللذة التي يعقبها ألما أكبر منها ولهذا نجد أبيقور يصنف
اللذات إلى ثلاثة أنواع ويقصر منها على من تحقق لذة دون أن يعقبها ألما فهنالك
رغبات طبيعية ضرورية تمثل النوع من اللذات التي يتحتم على الإنسان تحقيقها ولا
يستطيع العيش دونها كالأكل والشرب والنوم وهنالك رغبات طبيعية غير ضرورية هي
فطرية ولكن ليست مرتبطة بضمان الحياة ولكنها تصدر عن غرائز قوية كالرغبة الجنسية
وهذه يجب الاعتدال فيها فلا نتحاشاها تماما كما لا نلبيها جملة حتى لا نصبح
تابعين إليها بحيث أن غيابها يؤدي يحدث فينا الألم وأما النوع الثالث فيتمثل في رغبات ليست
طبيعية ولا ضرورية بل تنمو بسبب تأثير البيئة الاجتماعية فهي مكتسبة وليست فطرية
مثل كثرة المال ووسائل الترفيه ويرى أبيقور أن هذا النوع من اللذات يستوجب كبتها
وعدم تحقيقها لأنها كثيرة لا يمكن إرضائها كلها و التعود عليها يشعرنا عند
غيابها بالألم ولاشك أن اللذة الحسية شيء ذاتي شخصي فما يشكل لذة بالنسبة لي قد
يشكل ألما لشخص آخر والعكس صحيح وهو ما عبر عنه الفيلسوف السفسطائي بروتاغوراس
حين قال"الإنسان مقياس الأشياء جميعا" ومنه فالقيم الأخلاقية نسبية
وذاتية تابعة للإنسان وقد تطورت هذه الأفكار مع مذهب المنفعة بزعامة بنتام وجون
ستيوارت ميل حيث يرى الأول أن ساس الفعل الأخلاقي هو تحقيق أكبر قدر من المنفعة
لأكبر قدر ممكن من الناس ويوافقه في ذالك جون ستيوارت ميل.
إن نظرية اللذة ساوت بين الإنسان والحيوان وهذا أمر لا يصح فلا
يمكن موافقة أبيقور عندما يقول أن الطبيعة الحيوانية والإنسانية واحدة لأن
الإنسان مميز على الحيوان بالعقل كما أن التسليم بهذا الموقف يفقد القيم
الأخلاقية مشروعيتها وقيمتها ويحدث تناقض كبير بين القيم بسبب تعددها وتضاربها
بين الناس كما أن النظرية الاجتماعية بالغة في ربط أخلاق الفرد بأخلاق مجتمعه
فرغم وجود نوع من القهر الاجتماعي على الفرد فإنه يستطيع التحرر منه بدليل ظهور
مصلحين يحاولون إصلاح أخلاق المجتمع انطلاقا من رؤيا فردية.
إن القيم الأخلاقية فيها ما هو نسبي وما هو مطلق والتسليم بأحد الطرفين
على حساب الآخر يوقعنا في الكثير من التناقض ولهذا يمكن القول بأن الأخلاق ثابتة
في مبادئها وأهدافها ومتغيرة ونسبية في تطبيقاتها
فالصدق والأمانة والعدل قيم أخلاقية مطلقة وثابتة لا تتغير بتغير الزمان
والمكان لكن تطبيقاتها تختلف فكل القوانين تهدف إلى تحقيق العدل كفضيلة أخلاقية
رغم أنها لا تحققه بطريقة واحدة.
وما نستنتجه في ختام هذا التحليل هو أن الأخلاق قيم ثابتة كمبادئ
ومعاملات متغيرة ونسبية كسلوكات ورغم الجدل الكبير الذي يثار حول المعيار
المعتمد لتأسيس الأخلاق إلا أنه يمكن القول بأن الدين هو المعيار الأسمى الذي
يمكن الوثوق به بما أن مصدره رباني.
أستاذ المادة :دلسي محمد
|