القائمة الرئيسية

الصفحات

مقالة مقارنة بين العادة والإرادة




يمكنك قراءة الموضوع مباشرة أو تحميله من الرابط أسفله


السؤال: يقال< إن السلوك التعودي سلوك جامد بينما السلوك الإرادي فعل واعي> قارن بين هذين السلوكيين مبينا طبيعة العلاقة بينهما


مما لاشك فيه أن الإنسان يسعى دوما لتحقيق التكيف مع محيطه  النفسي الداخلي والطبيعي الخارجي ولن يكون له ذلك إلا بسلوكات تجسد ما يريده الإنسان وما يهدف إليه تتصف بكونها حرة وواعية غير أن هذا لا يمنع من إبداء الإنسان لسلوكات روتينية آلية  في حالات معينة أخرى ولهذا صنف علماء النفس التصرفات التي يصدرها الإنسان إلى صنفين ففيها ما هو إرادي صادر عن ملكة الإرادة ومنها ما هو اعتيادي مبني على التعود والتكرار وعلى هذا ولما كانت أفعال الإنسان متناسقة برزت علاقة بين هذين النوعين احتار الفلاسفة في تحديد طبيعتها وهو ما  يدفعنا لطرح التساؤل التالي: ما هو الفرق بين السلوك الإرادي والتعودي؟ وهل وجود هذا الاختلاف يمنع من وجود تداخل بينهما؟ وإن وجد فما طبيعته؟
إن كل من الفعل الإرادي أو التعودي سلوك نفسي صادر عن النفس كما أن هدفهما واحد وهو تحقيق التكيف مع مختلف المواقف المستجدة  التي يتطلبها المحيط الإنساني في صورته الشاملة سواء مع النفس ذاتها أو مع الآخر والمجتمع أو مع الطبيعة المادية فكلما تكرر أداء الإنسان لسلوك معين كلما سهل عليه القيام به وبشكل أرقى كالفرق في القدرة على التحكم في السياقة بين السائق المبتدأ والسائق المتعود  ومن هذا تعد السرعة والدقة والاقتصاد في الجهد كلها ميزات ناتجة عن الفعل الاعتيادي ويقول ليبنتز في هذا الشأن <إن العادة هي التي تجعلنا لا نأبه لجعجعة المطحنة أو ضجة الشلال إذا كنا أقمنا بالقرب منها منذ مدة طويلة> والأمر نفسه يصدق على الإرادة حيث يصف كانط الفعل الإرادي بقوله <إذا كنت تريد فإنك تستطيع> وبهذا المعنى الذي يقدمه كانط  يصبح السلوك الإرادي سلوك تكيفي من الناحيتين الأخلاقية والطبيعية المادية ويضاف إلى كل هذا أن كلى النمطين السلوكيين السالفين لا يولدان جاهزان بل كلاهما ينموان ويتطوران مرحليا ومنه فهما مكتسبان بفعل تأثر عوامل عدة منها ما هو أخلاقي تربوي ومنها ما تفرضه طبيعة الوجود  الطبيعي المادي ولهذا نجد كما يرى إبن خلدون أن عادة البدو وأرادتهم مختلفة عن عادات الحضر ل×تلاف طبيعة الحياة البدوية عن الحياة المدنية .
إن الاختلاف بين  العادة والإرادة ظاهر وجلي لا يمكن إنكاره وهو ما يظهر من أول ملاحظة لتعريفهما حيث تعرف العادة بأنها <قدرة نفسية مكتسبة على أداء عمل ما بصورة آلية> بينما جاء في تعريف الإرادة أنها < القصد إلى الفعل أو الترك مع وعي الأسباب الدافعة إليها> وعلى هذا يؤكد بعض الفلاسفة وعلماء النفس أن الفعل التعودي ليس إلا مجرد تكرار آلي سواء من حيث الاكتساب أو من جهة ردود الأفعال كاستجابات لمواقف معينة وهو ما أيده أرسطو لما قال <إن العادة وليدة التكرار> والتكرار مبني على الآلية وغياب الوعي لهذا يرى بافلوف أن الفعل التعودي مجرد منعكسات شرطية سمح التكرار بتشكلها وإكتسابها بينما الإرادة قرار واعي متجدد يريد الإنسان فيه العواقب والهدف الذي يتصوره مسبقا لذلك يرى سبينوزا أن الإرادة  نوع من أنواع التفكير فهي والذكاء عنده شي واحد وقد دعمه ديكارت في ذلك لما يقول <يكفي أن تحسن الحكم حتى تحسن العمل به> ومن جهة أخرى فإن التعود الذي يمتاز بغياب الوعي والشعور وضعف الانتباه  يؤدي إلى التقيد بنمط معين وثابت من السلوك مما يوقع الإنسان في الروتينية و الجمود ولهذا تكون الحتمية صفة ملازمة للسلوك المحكوم بالعادة مما يضيق قدرة الإنسان ويقلص حريته في تغير السلوك أو تطويره لهذا قال كانط <كلما ازدادت العادات عند الإنسان كلما أصبح أقل حرية واستقلالية> بينما بالعكس تماما فإن الفعل الصادر عن الإرادة تعتبر الحرية والوعي من شروطه الملازمة له ذلك أن الإرادة مبدأ الفعل الأخلاقي وهذا الأخير يفقد مبرراته في حالة غياب الحرية أو الشعور لأنه متعلق بالقدرة على الفعل أو الترك وهنا تقول فرقة المعتزلة <إن الإنسان يحس من نفسه وقوع أفعاله على حسب الدواعي والصوارف فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن> ومن هذا فإن الإرادة تساعد الإنسان على الإبداع والابتكار لأنها قابلة للتجدد والتغير باستمرار كما أنها تعبر عن عمق الطبيعة الإنسانية الواعية والحرة في حين أن الإرادة تعيق الابتكار وتقوم على قوالب جامدة وثابت متكررة باستمرار لذلك فهي تخالف الطبيعة الإنسانية الأصلية لتقترب من الطبيعة الحيوانية التي يغيب فيها العق وال شعور حيث يقول سولي برودوم < إن جميع من تستولي عليه قوة العادة يصبحون بوجودهم بشرا وبحركاتهم آلات>
إن عملية الفصل بين العادة و الإرادة تبدو صعبة خاصة في الممارسة العملية ، فبالرغم من أننا ننساق عادة مع النظرة التي تميز بينهما باعتبارهما أسلوبين مختلفين من السلوك فإن العادة ليست  عملية معاكسة للإرادة  بقدر ما هما متداخلان ومتكاملان فالإرادة هي المحفز على تكوين السلوك الاعتيادي ولهذا فإن العادة في تكوينها تعتمد على الإرادة نظرا لما تتميز به الإرادة من الوعي والحزم على سلوك ما مع الحرص على تنفيذه ثم بعد تكراره لمرات عديدة يتحول ذلك السلوك النابع عن الإرادة إلى عادة  مما يعني أن اكتساب العادات لازم للإرادة ومقاصدها سواء في ترسيخ عادات جديدة أو تغير عادات قديمة وتطويرها ومن ناحية أخرى العادة تساعد على تنفيذ الإرادة ذلك أن العادة تتميز بالآلية  السرعة في التنفيذ مع اقتصاد الجهد والوقت وكل ذلك يساعد الفرد على تحقيق ما يريد في أقل وقت وأقل جهد كما أن العادات الاجتماعية والتربية كثيرا ما تكون دافعا قويا للإرادة وتنميتها.
وبناءا على كل ما تقدم من تحليل نستنتج أن السلوك التعودي والسلوك الإرادي يتشابهان في بعض الخصائص ويختلفان في الكثير منها غير أن هذا غير كاف لتبرير إحداث القطيعة بينهما بقدر ما هو يؤسس للتكامل الوظيفي بينهما في سبيل تحقيق غرضهما المنشود الذي يطمح إليه الإنسان باستمرار وهو تحقيق التكيف مع العالم الخارجي بكل مكوناته ومركباته سواء المحيط الاجتماعي الإنساني أو الطبيعي المادي وعليه يمكن القول أن العلاقة بينهما هي علاقة تكامل وتلازم وظيفي فالإرادة تساعد في تكوين العادة كما أن العادة تقوي الإرادة وتنميها.

                              الفقير إلى رحمة الله ودعواتكم أخوكم في الله ومحبكم فيه  أستاذ المادة: دلسي محمد