- هل الإنسان مسؤول عن نتائج أفعاله؟
I/- طرح المشكلة:
يعيش الإنسان في وسط اجتماعي مدني يتميز بالرقابة الجماعية التي تكون أحيانا في شكل جزاء وأحيانا في شكل عقاب وفق ما تنص عليه العادات والأعراف والقوانين، ولا يمكن أن تصدر سلوكات وأفعال الفرد دون أن تمر على هذه السلطة لتحمله المسؤولية التي عرفها "علماء الاجتماع" بأنه: { أهلية الفرد لأن يتحمل نتائج أفعاله }، غير أن تعريف المسؤولية هذا بالنسبة للعلماء والمفكرين لم يحظ بالترحيب الكلي فظهر عناد وجدل فكريين بين أنصار الحتمية من ينزعون صفة المسؤولية عن الإنسان ومعارضيهم من يؤكدون على صفة المسؤولية وحملها من طرف الإنسان، فبعضهم يرى أن الإنسان مسؤول مسؤولية كاملة وتامة ولها أساس منطقي يبررها، والبعض الآخر يرى أن الإنسان غير مسؤول ولا يوجد أساس منطقي يبررها.
- هل الإنسان مسؤول عن نتائج أفعاله؟
II/- محاولة حل المشكلة:
1/- عرض القضية: يرى أنصار الأطروحة أن الإنسان مسؤول في كل الأحوال عن أفعاله ويتحمل عواقبها ما دام يمتلك عقلا يميز بين الخير والشر، وفي الوقت ذاته يمتلك القدرة على الاختيار والمفاضلة بين الأشياء. وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة العقلية والمثالية {كـانط، أفلاطون، المعتزلة، سبينوزا...}، من مبررات هؤلاء نذكر: لا يمكن رفع المسؤولية والجزاء على الأفراد مادام الشرط متوفر. و مادام الجزاء هو السبيل الوحيد لتقويم سلوك الجاني فالإنسان مسؤول عن أفعاله، لأنه يمتلك القدرة على التمييز والاختيار، فما دامت الحرية شرطا للمسؤولية، فمن الضروري أن يتحقق المشروط مادام الشرط متوفرا. هذه الرؤية وجدت قديما عند "أفلاطون" لأنه قال:( نحن أحرار ومسؤولون) وقال أيضا:( إن البشر مخطئون حين يتهمون القضاء والقدر ويتغافلون عن نتائج أفعالهم ، في حين أن الله بريء وهم المسؤولون عن اختيارهم الحر). نفس الفكرة وجدت عند "ايمانويل كانط"، لأنه قال:( إن الشرير يختار فعله بإرادته بعيدا عن الأسباب والبواعث)، إذن لا يمكن رفع المسؤولية على الإنسان، لأنه مكلف من طرف خالق الكون، مكلف لأن الشروط متوفرة حتى لا يشعر بظلم. هذه الرؤية وجدت في الفكر الإسلامي عند "المعتزلة" حيث توصلوا أن الخالق هو العدل الذي حرم الظلم على نفسه، خلق الإنسان، منحه القدرة على التمييز، ثم منحه القدرة على الاختيار ليحاسبه في حدود اختياره. والجزاء كاف لتقويم سلوك الإنسان، لأن الدراسات أثبتت أن يقبل على ويكرر الأفعال التي يجازى عليها بالثواب، وينفر من الأفعال التي يجازي عليها بالعقاب، بل حتى التقارير الإعلامية تؤكد بأن الدول التي يطبق فيها الجزاء بشكل صارم تقل فيها نسبة الجريمة. و هذا ما يثبت صدق طرح "سبينوزا" القائل:(إن المجرمين أفاعي سامة ، والعقاب هو الوسيلة الوحيدة لاقتلاع شرورهم).
- المناقشة والنقد: استطاع أنصار الأطروحة إثبات أن الإنسان مسؤول في كل الأحوال عن أفعاله ويتحمل عواقبها ما دام يمتلك عقلا يميز بين الخير والشر، لكن، هذه الرؤية تبقى مثالية مادامت اهتمت بما ينبغي أن يكون، وأهملت ما هو كائن. تعاملت مع النتائج فأهملت نوايا الفاعل والتي لا يعلمها إلا خالق الكون. إن رؤية أفلاطون وكانط لا تراعي الظروف التي أدت إلى الجريمة، والعقاب في هذه الحالة لا يقوم السلوك، بل ينمي روح الانتقام لدى الجاني.
2/- نقيض القضية: يرى أنصار نقيض الأطروحة أن الإنسان لا يعد مسؤولا عن أفعاله مادام مقيدا بجملة من الحتميات، أي أن الجزاء هو ظلم للمجرم كونه لم يختر أن يكون كذلك، وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة الوضعية {لامبروزو، فيري، جهم بن صفوان، فرويد...}، من مبررات هؤلاء نذكر: الإنسان غير مسؤول لأنه لا يمتلك الحرية المطلقة في اختيار أفعاله، و مادامت الحرية شرط في المسؤولية فإن غيابها يفرض رفع المسؤولية عن الفرد، فالمجرم مثلا حسب عالم الإجرام الايطالي "لومبروزو" لم يختر أن يكون كذلك، بل كان ضحية للمحددات الوراثية، فالاستعداد الطبيعي هو الذي يدفع إلى ارتكاب الجريمة، لأن السلوك الإجرامي يسير وفق حتمية فطرية، فهو مرتبط بـ ( كروموزمات الإجرام )، أي أن الإنسان يولد باستعداد للجريمة، وإن سمحت له الظروف والبيئة، فهو يحقق هذا السلوك باعتباره غير قادر بيولوجيا على التحكم في ردود أفعاله إذا ما تم إثارته. كما أشار لومبروزو إلى وجود معالم بيولوجية في المجرم مثل قصر القامة، تقوس الظهر، وجود ثغرة في مؤخرة الجمجمة، خفة الوزن، تشويه في وضع الأدنين وبروز عظام الوجه والعينين…، ثم استنتج خمسة أصناف من الجرمين: "مجرم مجنون"، وآخر "مجرم بالفطرة" ( لا يمكن إصلاحهما بل إعدامهما أو سجنهما بصورة أبدية مع الفصل بينهما ). و"مجرم بالعادة"، وآخر "مجرم بالمصادفة"، وأخيرا "مجرم بالعاطفة" (يمكن إصلاحهم). بعد كل هذه المعالم و التصنيفات يمكن الإقرار أنه من العبث والجنون أن يصنف مسؤولا من أرغم على أن يكون مجرما. من جهة أخرى لا يمكن أن ربط المسؤولية بكل إنسان، لأنه يوجد من كان مجبرا على الانحراف مادام المجتمع هو الذي استغنى عن خدماته، وهو ما توصل إليه عالم الإجرام الايطالي "فيري" حيث أشار أن الظروف العامة الاجتماعية أرغمت الفرد على أن يكون بطالا، أرغمت الثاني أن يعيش من دون أبسط شروط الحياة، أرغمت الثالث على البحث عن وجباته في القمامة...، الظروف الاجتماعية ساهمت في أن يكون الأول، الثاني والثالث منحرفون، لذا فلا يمكن معاقبة من سرق تحت ضغط الموت جوعا، بل المجتمع هو المسؤول وليس المجرم. الجزاء هو ظلم للمجرم، فالمجرم لا يوجد مجرما ولكن تصنعه ظروف بيئته الاجتماعية الفاسدة فالجريمة نتيجة حتمية لمجموعة من المؤثرات والحتميات لابد عند توافرها من وقوع الفعل الإجرامي منها المؤثرات الاجتماعية كالفقر والتشرد والبطالة والتسرب المدرسي. كما لا يمكن معاقبة من اندفع إلى الجريمة تحت تأثير جملة من الاضطرابات النفسية، وهو ما توصل إليه أنصار مدرسة التحليل النفسي حيث أكد "سيغموند فرويد" أن العقد النفسية والمكبوتات هي التي تدفع إلى ارتكاب الجريمة، فالإحباط المستمر هو الذي يجعل صاحبه يلجأ إلى الظروف الملتوية للتخلص من هذا الشعور المؤلم مع ابتداع طرق دفاعية، ظروف الطفولة القاسية تعزز لدى الفرد روح الانتقام من المجتمع كتعويض عن النقص الطفولي. أي أن السلوك الإجرامي مجرد تعبير عما هو مكبوت في ساحة اللاشعور، وبالتالي فإن صاحب هذه الاضطرابات لا يحاسب، بل يجب أن يخضع لعلاج نفسي تحليلي. نجد هذا الموقف كذلك في الفكر الفلسفي الإسلامي عند"الجبرية"حيث قالوا:"إن الإنسان ليس علة أفعاله فهو مجبر على فعل الفعل بعلة ما، فلا اختيار لإرادة الإنسان أمام إرادة الله المطلقة".
- المناقشة والنقد: استطاع أنصار نقيض الأطروحة إثبات أن الإنسان لا يعد مسؤولا عن أفعاله مادام مقيدا بجملة من الحتميات، أي أن الجزاء هو ظلم للمجرم كونه لم يختر أن يكون كذلك، ولكن، هؤلاء اهتموا بالمجرم وأهملوا الذي ارتكب في حقه جرما. الدراسات الوراثية أكدت أنه لا وجود لكروموزومات وراثية تقيد الإنسان وتدفعه إلى الجريمة. لا يمكن أن نتسامح مع المجرم ونعتبر المجتمع هو المذنب، لأنه ليس كل من عايش الفقر كان مجرما.
3/- التركيب: كتوفيق بين الطرحين يمكن التأكيد أنه لا يمكننا إلغاء المسؤولية ونفي الجزاء كلية، كما لا يمكن تطبيقه على أشده، بل ما يجب هو أن ننظر بعدل إلى الفاعل ( المجرم )، والفعل ( الجريمة ) ، أي أن تراعى الظروف التي دفعته إلى سلوكه مع مراعاة الآثار السلبية، والضرر الذي لحق بالغير، ينبغي أن نوفر للمجرم كل الظروف التي تبعده عن الجريمة، لكن في حالة إصراره على تكرار الفعل فإن ذلك يقتضي ردعه.
III/- حل المشكلة:
التفكير المنطقي يدفعنا إلى القول بأن مسؤولية الإنسان نسبية، لأنه حقا يمتلك العقل للتمييز بين الصواب والخطأ ويمتلك القدرة على الاختيار، لكن قد تحمل الظروف ما يكون قيدا له، فيندفع إلى أفعال مخالفة لقناعاته، أو تكون العواقب مخالفة لنواياه، ومن ذلك فإن الخالق هو الذي يحدد مسؤوليته في هذه الحالة، أما المجتمع فليس له الحكم الصادق، لأنه يتعامل مع نتائج الأفعال فلا يكون عادلا دوما في تحديد مسؤولية الفاعل.
يمكنكم تحميل المقالة على شكل وورد من الرابط التالي