القائمة الرئيسية

الصفحات

هل يمكن تبرير الاستقراء من الناحية العملية ؟

 - هل يمكن تبرير الاستقراء من الناحية العملية؟

I/- طرح المشكلة : 

إن العالم أثناء دراسته لظاهرة ما لا يقتصر على ملاحظتها فقط بل إنه يطمح إلى فهمها ومعرفة قوانينها العامة التي تتحكم فيها وللوصول إلى هذه الغاية اعتمد على الاستقراء الذي عرفه "أرسطو" بأنه: { إقامة البرهان على قضية كلية لا بإرجاعها إلى قضية أعمّ منها، بل بالاستناد إلى أمثلة جزئية تؤيد صدقها }، غير أن أهمية الاستقراء هذا بالنسبة للعلوم التجريبية لم تحظ بالترحيب الكلي مدة طويلة فظهر عناد وجدل فكريين بين أنصار الاستقراء ومعارضيه فبعضهم يرى أن الاستقراء مشروع، وله أساس منطقي يبرره، والبعض الآخر يرى أن الاستقراء غير مشروع، ولا يوجد أساس منطقي يبرره.

- هل يمكن تبرير الاستقراء من الناحية العملية؟

- هل الاستقراء مشروع، وله أساس منطقي يبرره أم أنه لا يستند إلى أساس منطقي صلب؟

II/- محاولة حل المشكلة:

1/- عرض القضية: يرى أنصار الأطروحة أن الاستقراء مشروع، وله أساس منطقي يبرره، والعلم يقوم على القوانين العامة المستخلصة من الأحكام الجزئية وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة العقلية { كـانط، لابالاص }، من مبررات هؤلاء نذكر: فائدة الاستقراء هو أننا نختزل عدد هائل من الظواهر في عينات، وتكون لنا نظرة واضحة لما يجري في الطبيعة من ظواهر، ونكون قادرين على التنبؤ بوقوع الظواهر قبل حدوثها. وما يبرر مشروعية الاستقراء أيضا هي مبادئ العقل كمبدأ السببية القائل:( أن كل ظاهرة لها سبب أدى إلى وقوعها)، و مبدأ الحتمية القائل:( أن نفس الأسباب تؤدي حتما إلى نفس النتائج مهما تغير الزمان و المكان)، يقول "كانط":(إن الاستقراء يقوم على مبدأ السببية العام)، أي إن الظواهر الطبيعية تسير في تتابع وإطراد منتظم فلكل ظاهرة سبب وعلة تكون قد أوجدتها مع الاعتقاد بمبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض في أن الأسباب لا تتبدل وهنا نقول أن الإستقراء يقوم على مبادئ عقلية الهدف منها هي التقنين والتعميم والتنبؤ الأمر ذاته في العلم الذي يقوم على القوانين العامة المستخلصة من الأحكام الجزئية فعندما نلاحظ مثلا أن الحديد يتمدد بالحرارة، ثم نلاحظ أن الذهب والفضة والنحاس تتمدد أيضا بالحرارة تتكون في أذهاننا قاعدة عامة مفادها أن "كل المعادن تتمدد بالحرارة". كما يؤكد لابالاص أن نتائج العلوم التجريبية دقيقة ، لأن الظواهر الطبيعية تخضع لقوانين صارمة نفس الأسباب تؤدي حتما إلى نفس النتائج مهما تغير الزمان و المكان يقول :{ يجب أن ننظر إلى الحالة الراهنة للعالم كنتيجة للحالة السابقة، وكمقدمة للحالة اللاحقة }، والتنبؤ بهذا المعنى يكون دقيقا أيضا مثل التنبؤ بظاهرة الكسوف، الماء يغلي بالضرورة في 100°، ويتجمد بالضرورة في 0°، ولا شك في ذلك ولا وجود للصدفة، إن الصدفة خرافة اخترعت لتبرير جهلنا } ومنه يكون التعميم صحيح لاشتراك أفراد النوع في نفس الخصائص.

- المناقشة والنقد: استطاع أنصار الأطروحة إثبات أن الاستقراء مشروع، وله أساس منطقي يبرره، والعلم يقوم على القوانين العامة المستخلصة من الأحكام الجزئية، لكن، إن مبدأ الحتمية مسلمة عقلية وليس حقيقة حسية، وما يصدق على الجزء قد لا يصدق على الكل من الناحية المنطقية، ما يجعنا نعتقد أن نتائج الاستقراء احتمالية و ليست يقينيــــــــــــــة.

2/- نقيض القضية: يرى أنصار نقيض الأطروحة أن الاستقراء غير مشروع، ونتائج العلم لا يمكن وصفها بدقيقة والمطلقة، بل تبقى دائما نسبية واحتمالية فقط، وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة اللاأدرية واللاحتمية { دافيد هيوم، كارل بوبر}، من مبررات هؤلاء نذكر: أن التجارب الناجحة والملاحظات المثبتة لأي قضية من القضايا لا تسمح منطقياً بالانتقال من التجارب الجزئية والملاحظات المحدودة إلى الحكم العام والقانون الكلي إذ إنه ليس من البديهي أن نكون مخولين لاستنتاج عبارات شاملة من عبارات مفردة، مهما كان عددها يمكن دائما لكل نتيجة مستنتجة بهذه الكيفية أن تكون كاذبة والاستدلال الاستقرائي لا يستند إلى أساس منطقي صلب، ذلك أنه لا يمتلك بالضرورة  خاصية الاستدلال المنطقي الصحيح: إذا كانت المقدمات صادقة، كانت النتيجة كذلك. كما لا يمكن أن نستخلص القوانين العامة من الأحكام الجزئية، لأن الملاحظات والتجارب تتم على العينات فقط ولا تتم على الكل. يقول (كارل بوبر) أن مبدأ الاستقراء هو: (عبارة نستطيع القيام بواسطتها باستنتاجات استقرائية في صيغة منطقية مقبولة)، إن صدق القضايا الاستقرائية في الماضي لا تعني صدقها في المستقبل. فالمرأة التي أنجبت أربع أولاد على التوالي لا نستطيع أن نجزم بأن الخامس سيكون ولدا وليس بنتا. وكما أنكر (دافيد هيـوم) مبدأ التعميم أنكر أيضا مبدأ السببية، ورده إلى العادة، أي أننا تعودنا على مشاهدة تتابع الظواهر كتتابع البرق والرعد... هو الذي جعلنا نعتقد أن الظاهرة الأولى هي سبب الظاهرة الثانية، لكن في الحقيقة ليس في هذا التتابع ما يدل أن هناك علاقة سببية بينهما. إن عبارة “الكل” لن تكون صادقة مطلقا ما لم نثبت تجريبيا أنها تنطبق على كل الأجزاء بدون استثناء. وهذا أمر مستحيل طبعا لأنه من المستحيل حصر كل أفراد القاعدة الاستقرائية لهذه العبارة، أي كل الحالات بالتمام والكمال. والاكتشافات العلمية الجديدة أثبتت أن “القوانين” التي درج التقليد الاستقرائي على تقديمها كأمثلة دامغة على الطبيعة المؤكدة للاستنتاجات الاستقرائية لم تكن إلا فرضيات سرعان ما تم إبطالها. مثل: عبارة “الشمس تشرق وتغرب مرة واحدة كل يوم”، التي اعتبرت عبارة تفسيرية شاملة ومؤكدة لمدة طويلة، عندما اكتشف القطب الشمالي أبطلت لأن “الشمس تشرق وتغرب مرة واحدة في السنة”. وأبطلت أيضا عبارة “كل الثدييات ولود” حينما اكتشف “خلد الماء”  باستراليا، وهو حيوان ثديي يبيض ولا يلد.

- المناقشة والنقد: استطاع أنصار نقيض الأطروحة إثبات أن الاستقراء غير مشروع، ونتائج العلم لا يمكن وصفها بدقيقة والمطلقة، بل تبقى دائما نسبية واحتمالية فقط، ولكن، مثلا موقف "دافيد هيوم" برفضه لمبدأ السببية العام والقوانين العلمية يكون قد دمر العلم من أساسه، فلا يمكن أن يقوم علم الفيزياء دون هذا المبدأ، ودون هذه القوانين التي تفسر العلاقة الثابتة بين الظواهر.

3/- التركيب: إن البحث العلمي الذي يعتمد على المنهج التجريبي الاستقرائي أكد قدرته على تقديم إجابات كثيرة تشغل تفكير الإنسان، لكن رغم كل هذا تبقى نتائجه تتميز بالنسبة وذلك لعدة اعتبارات منطقية ابستمولوجية وعلمية، أما من وجهة نظرنا فان الظواهر الطبيعية تتميز في ذاتها بالحتمية ونفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج لكن معرفة الإنسان تتميز دائما بالقصور حيث لا يمكنه الإحاطة بكل أسباب الظاهرة مما يجعل المعرفة الإنسانية معرفة نسبية وهذا ما يؤكد عليه فلاسفة العلم المعاصرين أمثال "اينشتاين" و"رودولف كارناب ".

III/- حل المشكلة:

 التفكير المنطقي يدفعنا إلى القول بأنه من غير المنطقي أن نبرر مشروعية الاستقراء تبريرا مطلقا، كما أنه من غير الضروري أن نستبعد مشروعية الاستقراء بشكل كلي، لذلك نقول أن طبيعة الظاهرة المدروسة لها جزء مهم في تحديد الصياغة التي تبحث بها سواء كانت عقلية أو حسية، ولا يمكن الحديث عن مشروعية الاستقراء ما دام ناقصا ونتائجه احتمالية غير دقيقة، لكن يمكن الحديث عن تطور مستمر لهذا المنهج والعلوم التي تعتمد عليه، وهذا دائما مرتبط بتقدم الملاحظة والتجربة.