هل يمكن تفسير الظواهر الحية تفسيرا غائيا ؟
I/- طرح المشكلة:
تطور العلم عندما آمن الباحث بأن الظواهر تخضع لنظام ثابت مجسد في مبدأ الحتمية لذا اتصفت الحقيقة العلمية باليقين نتيجة إخضاع الظواهر للتجربة، هذا ما جعل بقية العلوم تنشد ذلك ومن بينها العلوم البيولوجية، إن موضوع البيولوجيا هو الظواهر الحية، التي تقوم بمجموعة من الوظائف تؤديها مجموعة من الأعضاء. وما هو ملاحظ ذلك التوافق الموجود بين تركيب العضو والوظيفة التي يقوم بها، وهو ما جعل البعض يعتقد أن وظيفة العضو الحي هي الغاية التي جاء من أجلها، مما يفترض الأخذ بالتفسير الغائي في البيولوجيا، لكن هذه الفكرة أثارت جدلا بين أنصار الإتجاه الآلي وأنصار الإتجاه الغائي، فمنهم من يرى أنه لا يمكن فهم وتفسير الظواهر البيولوجية إلا بمعرفة الغايات التي جاءت من أجلها، والبعض الآخر يذهب إلى أنه لا يمكن فهم الظواهر الحية إلا إذا فسرت تفسيرا آليا حتميا.
هل التفسير الغائي كافٍ لفهم الظواهر الحية؟ هل يمكن تفسير الظواهر الحية تفسيرا غائيا ؟
II/- محاولة حل المشكلة :
1/- الأطروحة: يرى أنصار الأطروحة أنه لا يمكن فهم وتفسير الظواهر البيولوجية وتركيب الأعضاء الحية إلا بمعرفة الغايات التي جاءت من أجلها، وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة الغائية. من مبررات هؤلاء نذكر: أن كل عضو وكل جهاز إنما جاء من أجل غاية معينة هي الوظيفة التي يؤديها. مما يعني التسليم بأن الوظيفة أسبق من العضو؛ فالعين خلقت للإبصار والأذن للسمع، والجهاز التنفسي خلق من أجل مد الجسم بطاقة الاحتراق، والجهاز الهضمي من أجل تحويل المادة الغذائية إلى أحماض أمينية ... وكل ذلك من أجل غاية أعظم هي المحافظة على توازن الجسم الحي. إن ما تبدو عليه الأعضاء من تركيب محكم ينجسم مع الوظائف التي تقوم بها، وإذا اختل العضو تعطلت الوظيفة ولا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها، كما يتجلى في اختصاص بعض الأعضاء ببعض الوظائف وعمل هذه الأعضاء، بحيث يتحقق من عملها انتظام داخلي في العضوية كلها. تفسير الكائن الحي لا يكون وفق مبدأ الحتمية بل وفق الغائية لأن الظواهر الحية ترجع إلى علم الروح دون تقيدها بأي حتمية، وهذا ما ينفي تكرار الظاهرة بنفس الشروط، فضلا عن أن الروح كفكرة ميتافيزيقية يصعب علينا أو من المستحيل أن تجسد في الواقع ، وهذا دليل على أن أحد شروط الفرضية العلمية غير ممكن ( يجب أن تكون الفرضية قابلة للتحقيق عن طريق التجريب )، وهذا ما جعل المادة الحية تتميز عن المادة الجامدة بصفات أهمها الغائية باعتبار أن الأنشطة العضوية التي يقوم بها الكائن الحي موجهة نحو تحقيق غاية معينة وهــي تحقيق التوازن العضوي " توازن الكائن الحي" أرسطو الحياة طبيعة لا تفهم إلا عـلى ضوء التفسير الغائي، إضافة إلى ذلك نجد كل عضو وجد من أجل تأدية وظيفة معينة لهذا فالوظيفة سابقة وجودا للعضو، وتكامل الوظائف يؤدي إلى حفظ التوازن والبقاء وهي غاية داخلية، أما الخارجية فتتكون من علاقة الكائنات مع بعضها هذه العوائق التي تمنع تجسيد مبدأ الحتمية فرضت عدم مصداقية التجربة، لأن هذه الأخيرة تتطلب العزل وهذا ما لا يمكن تحقيقه في المادة الحية لأنه لا يمكننا عزل العضو عن محيطه الأصلي إلى الاصطناعي وإلا تصبح التجربة على المادة الجامدة لا الحية، فلا يمكننا مثلا استئصال الغدة النخاعية دون أن نأخذ بعين الاعتبار مفعول المخدر والصدمة النفسية.
- المناقشة والنقد: صحيح أن الظاهرة الحية تمتاز بالخصوصية وأنه لا يمكن فهم وتفسير الظواهر البيولوجية وتركيب الأعضاء الحية إلا بمعرفة الغايات التي جاءت من أجلها، إلا أن التسليم بوجود الغائية في الحياة يبعد البحث عن التفسير العلمي لهذا لا يمكن اعتماد الغائية كأساس للعلم لأن التفسير الغائي أقرب إلى التفسير الغيبي الميتافيزيقي منه إلى التفسير العلمي باعتبار الغائية عائقا أمام البحث العلمي.
2/- نقيض الأطروحة: يرى أنصار نقيض الأطروحة أنه يمكن تجسيد مبدأ الحتمية في البيولوجيا ذلك أن الظاهرة الحية لا تختلف عن الظاهرة الفيزيائية لأنهما يخضعان لنفس النظام القائم على الثبات والتكرار الشيء الذي يجعل الظاهرة الحية قابلة للتجريب وبالتالي التنبؤ بحدوثها في المستقبل نتيجة تكرار نفس الشروط ونفس النتائج، وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة الآلية. من مبررات هؤلاء نذكر: أن التفسير الغائي ليس مشروعا من الناحية العلمية، حيث لا يمكن فهم الظواهر الحية إلا إذا فسرت بما هو معلوم، أي بردها إلى قوانين الفيزياء والكيمياء، واعتبار الظاهرة الحية ظاهرة جامدة تعمل بصورة آلية وتخضع لمبدأ الحتمية. وهذا يعني أن العضو أسبق من الوظيفة، فالطائر يطير لأن له جناحان والإنسان يبصر لأن له عينان.. وأن التوافق بين العضو والوظيفة تــمّ بالصدفة، فالعضو مر بمراحل من التطور ولم صادف الوظيفة التي يقوم بها توقف عن التطور، ومن الناحية الكيميائية فإن المادة الحية تعتمد على نفس العناصر التي تتكون منها المادة الجامدة، فالأوكسجين يدخل في تركيب الجسم بنسبة 70% والكربون بنسبة 18% والهيدروجين بنسبة 10% وكذا الآزوت والكالسيوم والفسفور بنسب متفاوتة... ومادام الأمر كذلك يمكن تفسيرها بنفس القوانين التي نفسر بها المادة الجامدة. ثم إن عمليتي التنفس والهضم ليسا إلا تفاعلين كيميائيين لا يختلفان عن التفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل المختبر. ومن الناحية الفيزيائية، يمكن تطبيق قوانين الفيزياء على الظواهر الحية، من ذلك مثلا قوانين الميكانيك بالنسبة إلى القلب، فهذا الأخير لا يختلف في عمله أثناء الدورة الدموية الصغرى والكبرى عن محرك السيارة كما ينطبق مبدأ الحتمية على الظواهر الحية بنفس الصورة الصارمة التي ينطبق بها على المادة الجامدة، من ذلك مثلا انتظام الحرارة في الجسم الذي يتم آليا مهما اختلفت الظروف المناخية، فعندما تنخفض الحرارة في المحيط الخارجي يفرز الجسم شحنة من مادة الأدرينالين في الدم فتنشط عملية التأكسد وترتفع حرارة العضوية، ويحدث العكس بصفة آلية عندما ترتفع حرارة المحيط الخارجي.
- المناقشة والنقد: استطاع أنصار نقيض الأطروحة إثبات أنه يمكن تجسيد مبدأ الحتمية في البيولوجيا ذلك أن الظاهرة الحية لا تختلف عن الظاهرة الفيزيائية لأنهما يخضعان لنفس النظام، لكن ليس دائما فالخصوصية التي تمتاز بها المادة الحية عن المادة الجامدة تثبت استحالة تطبيق مبدأ الحتمية في البيولوجيا لأن المادة الحية متغيرة وفريدة من نوعها متشابكة في عناصره، وأكثر من ذلك فهي تهدف إلى غاية معينة.
3/- التركيب: إن الإيمان الكامل بمبدأ الحتمية في مجال الكائنات الحية لا ينفي وجود نوع من الغائية يتحقق وفقها الانسجام والتضامن بين الأعضاء، فلقد آمن كلود برنار بالحتمية في علوم الحياة لكنه لم ينكر الغائية حتى قال عنه "رافسون": ( إن نظرية كلود برنار هي نظرية ما يسميه الميتافيزيقيين بالعلة الغائية ) فالبيولوجيا تعتمد على منهج علمي يخضع لمبدأ الحتمية دون التخلي عن الطبيعة الغائية. وهذا دليل على أن الغائية لا تنفي الحتمية.
III/- حل المشكلة: وهكذا يتضح، أن التفسير الغائي مشروعا متى بقي الباحث في إطار الظواهر الملاحَظَة، ولم يتجاوز إلى طلب أسبابها الميتافيزيقية. يمكن القول في الأخير أو على ما سبق ذكره أن الكائن الحي له طبيعة خاصة وأن علم الحياة يمكن أن يوجد دون أن يكون مضطر لأن يحل هذا المشكل المتمثل في الغاية، فإذا كان القول بالحتمية لا ينكر القول بالغائية، فإن التسليم أيضا بوجود الغائية في علم الحياة لا ينفي الحتمية بل يستلزم القول بها.