القائمة الرئيسية

الصفحات

هل يمكن الاستغناء عن الفرض العلمي في المنهج العلمي ؟

 *- هل يمكن الاستغناء عن الفرض العلمي في المنهج العلمي ؟

I/- طرح المشكلة: 

إن الفكر الإنساني لا يقتصر على ملاحظة الحوادث بل إنه يطمح إلى فهمها أي أنه يضع يده على قوانينها العامة ولعل سبيله في الوصول إلى هذه الغاية الفرض العلمي الذي “هو عبارة عن تفسير مسبق مؤقت لظاهرة يتبناه الباحث العلم ريثما تثبته التجربة غير أن أهمية الفرض هذا بالنسبة للعلوم التجريبية لم تحظ بالترحيب الكلي مدة طويلة حتى قال ماجندي “إن الحادثة التي يلاحظها الباحث ملاحظة جيدة تغنيه عن سائر الأفكار ” وظهر عناد وجدل فكريين بين أنصار الفرض العلمي ومعارضيه بعضهم يرى أنه لا يمكن الاستغناء عن الفرض في المنهج التجريبي، والبعض الآخر يرى أنه يمكن الاستغناء عن الفرض في المنهج التجريبي يقصد.

فهل للفرض أو الفرضية وزن في البحث التجريبي أو لابد من استبعاده بحجة التمسك بالحادثة في حد ذاتها ومحاولة تفهمها بصورة دقيقة ؟ 

هل يمكن الاستغناء عن الفرض العلمي في المنهج العلمي ؟

II/- محاولة حل المشكلة:

1/- عرض القضية: يرى أنصار الأطروحة أنه لا يمكن الاستغناء عن الفرض في المنهج التجريبي لأنه يحدد الكيفية التي سيتم بها الإجراء التجريبي لأن التجريب العلمي ينطق أساسا من التفسير وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة العقلية. من مبررات هؤلاء نذكر: إن الكشف العلمي يرجع إلى تأثير العقل أكثر مما يرجع إلى تأثير الأشياء يقول "ويوال": (إن الحوادث تتقدم إلى الفكر بدون رابطة إلى أن يجيء الفكر المبدع)، مما يدل على أن الفكرة التي يسترشد بها الباحث في عمله تكون من بناء العقل وليس بتأثير من الأشياء الملاحظة ولهذا الفكرة تستخرج من الحوادث واستخراجها لا يتم إلا بتأثير العقل وخيال العالم والفرض ضروري لكون الملاحظة الحسية لوحدها غير كافية، ويعتبر "بوانكاريه" خير مدافع عن دور الفرضية إذ يقول أن (التجريب دون فكرة سابقة غير ممكن لأنه سيجعل كل تجربة عقيمة ذلك لأن الملاحظة الخالصة والتجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم ) ومن الأمثلة التي تبين كيف أن العالم يغني المعطى التجريبي بحوادث مفترضة مثلما حدث في فلورنسا حيث لاحظ السقاءون أن الماء لا يرتفع في المضخات الفارغة اكثر من 10.33م وهذا ما جعلهم يشكون في تفسير "أرسطو" الذي يقول إن الماء يرتفع بواسطة المضخة لأن المضخة إذا أفرغت من الهواء والطبيعة تكره الفراغ لهذا فالماء يرتفع لملء هذا الفراغ لكن هذا التناقص دفع "تورشلي" إلى أن يفترض تفسيرا جديدا افترض وجود ضغط جوي وبه فسر وقوف الماء عند 10.33م لا أكثر فـ"تورشلي" لم يشاهد ظاهرتين متلازمتين في الحضور عدم ارتفاع الماء اكثر من 10.33م من جهة ووزن الماء من جهة أخرى بل شاهد فقط الظاهرة الأولى أما الثانية فهي من قبيل الخيال والذهن ولولا هذا الإبداع على حد تعبير "برانشفيك" لما وصل إلى فهم الظاهرة،ويقول "كلود برنارد" “الفكرة مبدأ كل برهنة وكل اختراع واليها ترجع كل مبادرة ” أي أن دور الفرض يكمن في تخيلي ما لا يظهر بشكل محسوس فنن لا ندرك دوران الأرض إدراكا مباشرا ولكننا نتصور حدوثه ومعنى هذا أن الفرض يحتوي عنصرين لم يسبق لنا أن أدركناه بحِسنا عنصرا تصوريا يتعدى الخبرة الحسية المباشرة ولذلك فإن الفرض بالنسبة لأصحاب "النظرية العقلية" هو الذي يقود الباحث نحو التجريب وليس الحواس.

- المناقشة والنقد: استطاع أنصار الأطروحة إثبات قيمة الفرض وهو ضروري فمن دونه لا يقوم نشاط علمي وبدون فكرة لا تحصل معرفة، لكن، الفرض قد يخضع لذاتية نابعة عن خيال العالم ولذلك فهو قابل للخطأ وبعيدا عن الموضوعية كما أنه من الممكن أن يبعد الباحث عن التفسير الحقيقي لظاهرة ما إذا كان خاطئا خاصة وأنه يحتمل الخطأ والصواب. 

2/- نقيض القضية: يرى أنصار نقيض الأطروحة أنه يمكن الاستغناء عن الفرض في المنهج التجريبي لأنه مشروع قانون أو تفسير مؤقت نخاطر به في ميدان التجربة فإن ثبت بطلانه عدلنا عنه إلى فرض ثان فثالث حتى يكون قانونا عاما، هذا رأى طائفة من الباحثين التجريبيين. من مبررات هؤلاء نذكر: أن هناك بعض الأشياء تكتشف بغتة بدون أن يكون لها فرض من الفروض وهذا ما حدث مع "غاليلي" عندما اكتشف أقمارا للمشتري بواسطة المنظار، وإذا ما حاولنا استقراء التاريخ نجد أن الاكتشافات العلمية في الغالب لم تكن سوى اندفاع من فضولهم كما أن الفرض لا يكون سابقا للتجربة في كل مرة وليس ضرورة إطلاقا لأنه قد يكون في بعض الأحيان خطرا على التجربة. "ماجندي" لتلميذه "كلود برنارد": ” أترك عباءتك وخيالك عند باب المخبر ” يكفي أن نترك التجربة تحل بنفسها في أذهاننا حتى ندرك حقيقة الظاهرة ويقول “جون ستيوارت ميل” (إن الطبيعة كتاب مفتوح ولإدراك القوانين التي تتحكم فيها ما عليك إلا أن تطلق العنان لحواسك أما عقلك فلا) ويعتقد أن الخيال يؤثر على الموضوعية وإذا كان الفرض من طبيعة ذاتية فإنه يصبح عائقا في البحث العلمي واستخدام الفرض مع التأكد من صحته والاعتماد على التجربة عن الاختيار يعد مضيعة للوقت من جهة وإفراطا في الجهد من جهة أخرى ويرون انه من الممكن الانتقال من الملاحظة إلى التجربة وهذا معناه أن الملاحظة هي التي تقود الباحث إلى الحل وليس الفكر ولهذا سمي موقفهم بأصحاب النزعة الحسية دون اللجوء إلى الفروض. ولقد اصطنع "جون ستيوارت ميل" الطرق الاستقرائية التي تمكن الباحث من فهم الظاهرة والوقوف على عللها دون الخروج عن الطابع الحسي للظاهرة وحتى نتأكد من وجود السببية بين ظاهرتين نحاول اكتشاف نوع العلاقة بينهما منها : - طريقة التلازم في الحضور وتعني أن العلة والمعلول متلازمتان في الحضور بحيث إذا لاحظنا أن الظاهرة (أ) تتبعها دائما الظاهرة (ب) استنتجنا من التلازم في الحضور - طريقة التلازم في الغياب ومفادها أن غياب العلة يستتبع غياب المعلول معها - طريقة التغيير النسبي وهي تنظر إلى العلاقة بين الأشياء نظرة رياضية كمية وتعني أن كل تغير يطرأ الظاهرة (أ) يقتضي تغيرا مقابلا في الظاهرة(ب)  - طريقة البواقي وملخصها أن الباقي من العلل للباقي من المعلولات مثلا إذا كان لدينا مجموعة من المفاتيح (أ), (ب), (ج) وعرفنا أن كل واحد من هذه المفاتيح يفتح مجموعة من الأبواب (د),(ه), (و) وعرفنا بأن (أ) يفتح (ه) و(ج) يفتح (د) فيثبت لدينا أن المفتاح الباقي (ب) يفتح الباب الباقي (و).

- المناقشة والنقد: استطاع أنصار نقيض الأطروحة إثبات أنه إذا اقتدى العالم ببعض هذه الطرق فإنه لاشك يقف على فهم الظاهرة بدون أن يكلف نفسه عناء حدود هذه الظاهرة في طبيعتها الحسية ولكن أليس في هذا الموقف نوع من المجازفة؟ ثم من الاعتراضات التي نسبت إلى “ميل” ما قاله “ويوال ” قال إن الاستدلال التجريبي الذي يقترحه “ميل” يغفل دون العقل ونشاطه مع أن العقل هو الأداة التي نكشف بها العلاقات القائمة بين الأشياء وعن طريق وضع الفروض و”ميل ” هو نفسه يعترف بعيوب طرقه ولهذا أعلن “غاستون باشلار” (إن التجريب العلمي الصحيح يتنافى وهذه الطرائق التي تعود إلى عمر ما قبل العلم ) كما أن التفكير العلمي لم يعد همه اكتشاف العلل أو الأسباب بقدر ما هو اكتشاف العلاقات الثابتة بين الظواهر.

3/- التركيب: إن الطرق الاستقرائية تفيد العالم وتجعله يقف على فهم الظاهرة ومعرفة عللها دون تجاوز الطابع الحسي لها ولكن هذه الطرق لا يمكنها أن تحل محل الفرض العلمي فبدونه لا يقوم نشاط علمي وبدون عقل مفكر يجمع بين الحوادث لا يحصل إدراك ولا معرفة وعليه تبقى الفرضية من اكبر خطوات المنهج التجريبي فعالية وقد أكد "غاستون باشلار" على المعنى التكاملي بين كل من الفرض والتجربة فالفرض الفاشل يساهم في إنشاء الفرض الناجح عن طريق توجيه الفكر .

III/- حل المشكلة: 

لا يمكن إنكار دور الفرضية أو استبعاد آثارها من مجال الفكر والتفكير عامة لأنها من جهة أمر عفوي يندفع إليه العقل الإنساني بطبيعته ومن جهة أخرى وهذه هي الصعوبة تعتبر أمرا تابعا لعبقرية العالم وشعوره الخاص إن مصير الرحلة يتوقف على نقطة الانطلاق ويعترف كلود برنار بأنه ( لا توجد قاعدة لتوليد فكرة صحيحة في ذهن العالم إثر ملاحظة من الملاحظات ولكن الفكرة إذا تولدت أمكننا أن نخضعها لقواعد دقيقة لا يستطيع المجرب أن يبتعد عنها ) وما يطمح إليه العلم لا يتحقق على الوجه الأكمل إلا بالانتقال من الفرضية إلى القانون.