القائمة الرئيسية

الصفحات

هل مصدر المعرفة هو العقل أم التجربة ؟

 هل مصدر المعرفة هو العقل أم التجربة (الحس)؟

هل أصل المعرفة قبلي (العقل) أم بعدي (التجربة أو الحواس)؟

مقدمة (طرح المشكلة): لقد اهتمت الفلسفة منذ القديم بدراسة المعرفة على اعتبار أنها خاصية انسانية، وقد أثارت مشكلة أصل المعرفة جدلا واسعا بين المفكرين والفلاسفة، إذ يعتقد أنصار المذهب العقلي أن العقل هو مصدر المعرفة الوحيد، في حين يشكك أنصار المذهب التجريبي في هذه الحقيقة ويعتبرون أن التجربة الحسية هي مصدر المعارف كلها، وفي ظل هذا الجدل القائم، يُثار التساؤل الاتي: هل المعرفة الانسانية ذات أصول عقلية خالصة؟

عرض الأطروحة: يرى أنصار النزعة العقلية وفي مقدمتهم "روني ديكارت"،"ليبنتز"، "مالبرانس"،"آلان" ... بأن العقل هو المصدر الأول لنهل (لاكتساب، لتحصيل)  المعرفة، في هذا الصدد يقول آلان: << إن الشيء يُعقل ولا يُحس>>.

الحجج: برر أنصار هذه الاطروحة موقفهم بالحجج الآتية:

1- حجة "ديكارت": المعرفة نشاط عقلي صِرْف: فلما نريد أن نُدرك (نفهم) شيئاً ما، نبدأ  عادة بمرحلة الشك، والشك يتطلب التفكير، والتفكير يوصل الى البداهة والوضوح، في هذا الصدد يقول ديكارت في" الكوجيتو": << أنا أشك، أنا أفكر، إذن: أنا موجود>>، فهناك كثير من المفاهيم أو المعارف ندركها بوضوح وبداهة بمفهوم" الكوجيتو الديكارتي" السابق، مثل المسائل الرياضية.

2- لأنه الأداة الاساسية لكل استدلال منطقي.(الخطاب المنطقي)

3- لأن جميع المعارف تنشأ عن المبادئ العقلية القبلية والضرورية (الفطرية)  الموجودة فيه مثل: مبدأ عدم التناقض، مبدأ السببية (العلية) مثل: فطريا لا أقبل التناقض عند قول: فلان حاضر وغائب في آن واحد، أو قول: هذه الظاهرة الطبيعية حدثت دون سبب.

4- معارف الانسان عقلية لأن المعرفة الحقيقية ترتد الى ما يميز الانسان عن الحيوان وهو العقل لا الحواس.

5- العقل  قوة فطرية  في النفس مهيأة لتحصيل المعرفة وفهم المعاني وعرّفَه "أبويوسف يعقوب بن إسحاق الكندي" (185 هـ/805 - 256 هـ/873) علامة عربي مسلم بقوله: << جوهر بسيط مُدرِكٌ للأشياء بحقائقها>>.

6- جميع معارفنا تستمد وحدتها وصفاتها اليقينية من العقل.

مناقشة: لكن اعتبار العقل المصدر الوحيد للمعرفة أمر مُبالغٌ فيه، وهذا ما جعل هذه النظرية تتلقى انتقادات منها:

* تكذيب وجود أفكار فطرية مطلقة الصحة واليقين، فالأطفال مثلا  لا يدركون مفهوم  مبدأ السببية

* الوضوح لا يصلح كمعيار صحيح في كل الاحوال، لأن ما هو واضح عند شخص قد يكون غامضا عند غيره.

* كما ان العقل غير معصوم من الخطأ

عرض نقيض الاطروحة: يرى أنصار النزعة التجريبية، وفي مقدمتهم: "جون لوك"، "دافيد هيوم"،" جون ستوارت مل"... أن التجربة الحسية أساس المعرفة ومصدرها الأول، في هذا الصدد يقول دون لوك: << لو سألت الانسان متى بدأ يعرف؟، لأجابك: متى بدأ يحس>>

الحجج: برر أنصار هذه الاطروحة موقفهم بالحجج الآتية:

1- لو كان العقل مصدرا وحيدا للمعرفة لكان حظُّ الناس من المعارف متساويا، والواقع يثبت عكس ذلك، يقول جون لوك: <<لو كان الناس يولدون وفي عقولهم أفكارا فطرية لتساووا في المعرفة>>

2- التوصل الى القوانين في العلوم التجريبية يكون بشكل مبدئي: بالملاحظة العلمية والتجربة العلمية.

3- كل المعارف  تكتسب بالتجربة ولهذا يؤكد التجريبيون أن العقل يولد صفحة بيضاء خالية من أي افكار فطرية والتجربة هي التي تخط عليه ما تشاء.

4- أُثبت علم النفس الطفل في نموه العقلي أنه لا يملك أي معرفة فطرية فهو مثلالا يدرك الكم الرياضي المجرَّد إلا اذا مرَّ بخبرات تعلمية حسية.

5- الحواس هي الوسيلة الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي،  يقول "جون لوك": << الحواس والمدركات هما النافذتان اللتان ينفذ منهما الضوء الى الغرفة المظلمة (العقل)>>.

6- وضعية: الانسان في البداية لا يعرف شيئا ويبدأ  في اكتشاف العالم الخارجي عن طريق الحواس فمثلا: البرتقالة يصل الينا لونها عن طريق البصر، ورائحتها عن طريق الشم،  وطعمها عن طريق الضوء

مناقشة: لكن اعتبار التجربة الحسية المصدر الوحيد للمعرفة أمرٌ مبالغٌ فيه، وهذا ما جعل هذه النظرية تتعرض لانتقادات منها:

* لو كانت الحواس مصدرا للمعرفة الانسانية لكانت البهائم تعرف أيضا لأنها تشاركنا في نفس الحواس.

* الحواس خادعة ومضللة، فلو وضعنا مثلا نصف عصا مستقيمة في دلو (إناء) ماء، لتجلت لدى حاسة البصر منكسرة، وهي بحكمة العقل مستقيمة.

* نحن نرى النجوم صغيرة، والحقائق العلمية تؤكد أنها أكبر بملايين المرات مما نراها.

التركيب أو التجاوز: و تجاوزًالما سبق، استطاع الفيلسوف الألماني " ايمانويل كانط" أن يتخطى مشكلة التعارض بين العقلانيين والتجريبيين، حيث سَلّم بأن للأشياء الخارجية وجود واقعي يمكن البرهنة عليه، ولكن معرفة خصائصها متوقفة على الدور الذي يلعبه العقل في عملية المعرفة.

- عملية المعرفة تبدأ من التجربة الحسية المتمثلة في الانطباعات التي تنقلها إلينا الحواس عن الاشياء وهذا ما يسميه "كانط" بمادة المعرفة، ولكن لا يكون لها معنى محدد إلا اذا تدخل العقل ورتبها ونظمها وفق تصوراته وهذا ما يسميه كانت بصورة المعرفة.

- عالم الاشياء كما تنقله لنا الحواس هو في الاصل شتات معرفي، والعقل يجمع ويربط هذا الشتات  اعتمادا على تصوراته.

- إذا حاول الانسان بعقله فقط  أن يعرف الاشياء في ذاتها أي طبيعتها قد يقع في التناقض وهذه يعني أن" كانط "وضع أيضا حدودا للعقل لا يستطيع أن يتخطاها.

*الرأي الشخصي: المعرفة بقدر ماهي عقلية هي أيضا حسية وتجريبية ، مثلا الاتساق الرياضية المعاصرة عقلية لكن تطبيقها في الواقع  الفيزيائي أو الهندسي يجعلها تجريبية وبذلك تجمع بين الصدق بالبرهنة العقلية والتجريبية على السواء.

حل المشكلة: وفي الآخير نستنتج  أنه بِرَغْمِ المسلمات التي تأسس عليها كل مذهب في التعبير عن مضمونه ونسقه المعرفي، فإنه من الصعب رفض أو إلغاء أي واحد منهما، أي أن أساس المعرفة هو انطباق الفكر مع نفسه (المسلمات العقلية)  ومع الواقع في آن واحد (المسلمات التجريبية)، في هذا الصدد يقول "كانط": << إن المفاهيم بدون حدوس حسية جوفاء، والحدوس الحسية بدون مفاهيم عمياء>>.