القائمة الرئيسية

الصفحات

هل الرياضيات مطلقة أم نسبية؟ هل تعدد الأنساق الرياضية يعزز اليقين الرياضي أم أنه يسيء إليه؟

 هل الرياضيات مطلقة أم نسبية؟ هل تعدد الأنساق الرياضية يعزز اليقين الرياضي أم أنه يسيء إليه؟

I/- طرح المشكلة:

إذا كان الإنسان بفضوله العلمي يسعى إلى تحقيق نتائج متصفة بالصرامة واليقين فإنه سيجد في الرياضيات ما يحقق له ذلك لأنها تمثل الفكر الصحيح والمثالي، والرياضيات من أولى العلوم نشأة وهي: (ذلك العلم الذي يهتم بدراسة المقادير القابلة للقياس وتسمى بالكم، والكم نوعان متصل "الهندسة" وكم منفصل "الحساب"). و قد ارتبطت تحليلات الرياضيات بمنطلقات المنهج التي وضعها الرياضي إقليدس في القرن 3 ق.م حتى أضحت الحقائق الرياضية تستمد معناها من فكرة البداهة والوضوح الناتجة عن تلك المنطلقات، إلى أن ظهرت الهندسات اللاإقليدية في العصر الحديث وتعددت فيها المنطلقات فقلبت الموازين وضرب الشك اليقين الرياضي، فشكّل موضوع اليقين في نتائج الرياضيات محور جدل ونقاش بين الفلاسفة والرياضيين، إذ أكد بعضهم أنها نتائج مطلقة في كل الأحوال بحكم أنها علم مجرد، وحكم البعض الآخر على نتائج الرياضيات بأنها نسبية باعتبار تعدد الأنساق فيها. 

هل يمكن وصف الرياضيات بالصناعة الصحيحة في كل الأحوال؟ 

هل تعدد الأنساق الرياضية يعزز اليقين الرياضي أم أنه يسيء إليه؟ 

هل هذا التعدد دليل خصوبة هذه الصناعة العقلية أم أنه علامة عقمها وتناقضها؟ 

II/- محاولة حل المشكلة: 

1/- الأطروحة: يرى أنصار الرياضيات الكلاسيكية أن نتائج الرياضيات مطلقة في اليقين انطلاقا من المبادئ التي تعتمدها و أساليب البرهنة التي لا تقبل الشك، فاعتبروا أن صدق المفاهيم الرياضية مصدره فكرة البداهة، والبديهيات أو الأوليات هي قضايا يقينية بذاتها لا تحتاج إلى برهان لأنها فطرية لدى الإنسان وقاسم مشترك بين جميع العقلاء. ومن أهم البديهيات التي اعتمدها إقليدس في منهجه الرياضي هي التي تقول: «الكل أكبر من الجزء». وقد ظل رينيه ديكارت معجبا بفكرة البداهة وجعلها من الأفكار الفطرية وأسس منهجه على أساسها حيث يقول: [ لا أتقبل شيئا على أنه صحيح إلا إذا كان بديهيا ]، أما المسلمات فهي أقل وضوحا من البديهية، لكن العقل يفترضها ويسلم بها كنظرية يبرهن بها ولا يبرهن عليها، وقد سلّم إقليدس في هندسته بالمصادرة القائلة أنه من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن يمر سوى مواز واحد فقط، وافترض أن شكل المكان سطح مستوي ذو ثلاث أبعاد وكذا مصادرة مجموع زوايا المثلث 180°، ويرتبط صدق الرياضيات أيضا بالتعريف الرياضي لإقليدس وهو القول الشارح لمفهوم الشيء بذكر الخصائص الجوهرية فيه فعلى سبيل المثال يعرّف المستقيم بأنه مجموعة النقاط على استقامة واحدة، فالتعريفات حسب إقليدس لا يمكن إبطالها، ويعتبر المنهج الرياضي الذي اعتمده وأساليب البرهنة فيه معيارا للصدق المطلق لأنها تعبر عن الانسجام المنطقي للعقل لاحترامها مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض، فأي تعدد في النسق الرياضي يخالف البداهة وقواعد العقل ويفقد الرياضيات مطلقيتها.

- نقد ومناقشة : رغم هيمنة الهندسة الإقليدية على الفكر الرياضي أمدا طويلا، إلا أنه لا يمكن الجزم بمطلقية نتائجها لأنها صادرة عن العقل البشري فكيف لأمر نسبي أن ينتج أمرا مطلقا؟ ثم إن التصور الذي انطلق منه إقليدس للمكان مرتبط بالواقع الحسي المتغير و هذا ما يمنع من التسليم بمطلقية النتائج المترتبة عن هذه المنطلقات. وبتطور الرياضيات في العصر الحديث تحطمت فكرة البداهة التي كانت معيارا لصدق المفاهيم الرياضية مما يتطلب النظر للقضية من وجهة نظر أخرى.



2/- نقيض الأطروحة: يرى أنصار الرياضيات المعاصرة أن نتائج الرياضيات نسبية في اليقين و ليست ثابتة لأن ظهور النسق الأكسيومي حطم مبدأ البداهة فظهرت ما تعرف بأزمة اليقين الرياضي و أصبحت كل القضايا الرياضية مجرد أوليات قابلة للنقاش و هو ما جعل الرياضيات قادرة على مسايرة تقدم العلوم. لقد بدأت أزمة اليقين الرياضي مع ليبنيتز الذي رأى أنه إذا كان البناء الرياضي هو الذي يقوم على مجموعة من المبادئ واضحة بذاتها لا تحتاج إلى برهان فلماذا نشك في النسق الإقليدي إذا لم تكن مبادئه ليست بديهية بالمعنى الفطري للكلمة بل هي مجرد قضايا افتراضية وقد لقي هذا الطرح اهتماما كبيرا في القرن 20م فلاحظ العلماء الرياضيون المعاصرون أنه لا عيب ولا حرج في إعادة النظر في المبادئ الرياضية ورفضوا وجود مبادئ ثابتة بل هي مجرد منطلقات يمكن أن يضع الرياضي منها ما يشاء، وعلى هذا الأساس ظهر النسق الأكسيومي وحطم فكرة البداهة بتعدد الأنساق الرياضية على يد الرياضي الروسي لوباتشفسكي والرياضي الألماني ريمان، فقد افترض الأول شكلا مقعرا للمكان ومن ذلك استنتج أن مجموع زوايا المثلث أقل من 180° ، وافترض ريمان أن المكان ذو شكل كروي فاستنتج أن مجموع زوايا المثلث أكبر من 180°، فتعدد الأنساق الرياضية حسبهم دليل على نسبية هذا العلم لأن التعدد يدل على النسبية يقول بوليغان: [ إن كثرة الأنظمة في الهندسة لدليل على أن الرياضيات ليست فيها حقائق مطلقة ]، كما يعاب على الرياضيات تقريبية بعض المفاهيم فيها كالمفهوم الرياضي 7\22 = 3.14= π  فالمفاهيم الرياضية إذن نسبية و ليست مطلقة. 

- نقد ومناقشة: إن أزمة اليقين الرياضي لم تنقص من قيمة الهندسة الإقليدية وتحطيم مبدأ البداهة لا يعد تحطيما لقيمة ومطلقية الرياضيات بل كان ظهور الهندسات الحديثة تصحيحا لمعنى مطلقية وثبات اليقين الرياضي وليس إلغاء للهندسة الكلاسيكية التي رغم الانتقادات التي لحقتها ظلت مسيطرة ومعتمدة في البحوث الحديثة.

3/- التركيب: كتوفيق بين الأطروحتين يمكن التأكيد على أن المفاهيم الرياضية ليست مطلقة دوما كما أنها ليست نسبية بصفة دائمة إنما هي يقينية من حيث المنهج وأساليب البرهنة وحرصها على الانسجام بين المنطلقات والنتائج ومن جهة ثانية هي نسبية من حيث النتائج. وتبقى قيمتها واردة داخل نسق واحد.

III/- حل المشكلة:

 وفي الختام نقول أنه لا يمكن مقابلة نتائج نسق رياضي معين بالآخر بل كل نسق يتصف باليقين طالما هناك تماسكا بين النتائج و المنطلقات وهنا نؤكد على أن المبادئ الرياضية ليست صادقة في جميع الأحوال بل صدقها مرتبط بنسقها ومن هنا اكتسبت دقتها وهذا ما جعلها لغة كل العلوم لاعتماد هذا العلم العقلي التجريدي على مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض دون البحث عن الصدق في الواقع.