القائمة الرئيسية

الصفحات

مقالة أصل المفاهيم الرياضية






يمكنك قراءة الموضوع مباشرة أو تحميله من الرابط أسفله


السؤال:إذا كانت الرياضيات تهتم بدراسة الكم المجرد فهل يعني هذا أن أصل نشأتها هو العقل؟


تعد الرياضيات أولى العوم استقلالية عن الفكر الفلسفي حيث أسست لنفسها منهجا خاصا قائما على الاستنباط و موضوعا مستقلا ينبني على دراسة الكم المجرد في الأشياء والكون وقد فصلت الرياضيات الكلاسيكية بين صنفين كم منفصل يدرس الحساب وكم متصل موضوعه الهندسة وقد كان هذا موضع توافق بين كل الرياضيين والفلاسفة لكن ما لم يتفقوا حوله هو الأصل البعيد والأول لتكون مفاهيم اللغة الرياضية حيث اعتقد البعض انه العقل الفطري المستقل تماما عن التجربة والعالم الحسي في حين على عكس هذا خالفهم البعض فحكم بالأصل الحسي التجريبي لكل المفاهيم الرياضية وهو ما خلق جدل وتنافر بين الموقفين يحرك الرغبة الفلسفية الفضولية لتطرح التساؤل التالي: هل المفاهيم الرياضية مفاهيم عقلية فطرية أم انها حسية مكتسبة؟ ثم كيف يمكن تهذيب هذا التناقض في سبيل تحصيل موقف موضوعي مؤسس علميا وفلسيفا؟
يرى كل فلاسفة المذهب العقلي دون استثناء أن أصل المفاهيم الرياضية هو العقل الخالص المحض أي المستقل تماما عن العالم الواقعي الحسي والمعارف النابعة منه بالحواس والعقل في ذلك يستند إلى أسس ومبادئ ذاتية وفطرية فيه ومن بين أشهر ممثلي هذا الطرح نجد اليوناني أفلاطون والفرنسي ديكارت والألماني كانط وغيرهم.
حيث استند أفلاطون في تأسيس رؤيته إلى نظريته في المعرفة والوجود حيث اعتقد مسبقا أن المفاهيم الرياضية في خصائصها ثابتة وأزلية ومطلقة ومن هذا يحكم بانتفائها في  العالم الحسي لأنه فاني ونسبية ومتغير على الدوام وبهذا فهي في أصلها موجودة في عالم المثل منذ الأزل وحقائق هذا العالم مطلقة وثابتة وأزلية ومن بينها المفاهيم الرياضية لكن كيف يعرفها الإنسان؟ يجيب أفلاطون بان النفس الإنسانية كانت تحيى في عالم المثل وتدرك كل أصناف الحقيقة لكن نزولها بسجن البدن أنساها كل ما كانت تعرفه وعلى هذا فالعملية المعرفية عنده عملية تذكر<المعرفة تذكر والجهل نسيان> ولهذا فالمفاهيم المعرفية موجودة في النفس منذ الأزل وما عليها سوى تذكرها ويكون هذا بالعقل لأنه من نشاطه أما الحواس النسبية المرتبطة بالبدن فلا يمكنها أن تدرك مثل هذه المفاهيم لأنها لا توجد أصلا في عالم الحس النسبي بل في عالم المثل المطلق ويؤكد أفلاطون طرحه هذا بوضوح عندما يقول <ليست مهمة الرياضيات خدمة التجارة في البيع والشراء كما يعتقد الجهال بل هي تيسير طريق النفس في انتقالها من دائرة الأشياء الفانية إلى الحقيقة الثابتة الأزلية> لهذا كتب عند مدخل اكادميته<من لا يعرف الرياضيات فلا يطرق بابنا> ومن هذا يصل أفلاطون إلى أن المفاهيم الرياضية كالخط المستقيم والدائرة واللانهائي والأكبر والأصغر ..هي مفاهيم أولية نابعة من العقل وموجودة فيه قبليا ويؤيده في هذا أب الفلسفة الحديثة رني ديكارت حيث انطلق من أن البداهة صفة مميزة للمفاهيم الرياضية الثابتة لكن الحواس تخطأ وتخدع كرؤية العصا منكسرة في الماء وحقيقتها غير ذلك ولما كانت متغيرة فلا يمكنها أن تدرك ما هو ثابت لان النسبي لا يدرك المطلق لهذا يرى ديكارت أن المفاهيم الرياضيات هي مبادئ فطرية أودعها الإله في العقل منذ الأزل وبما أن أفكار الإله  صادقة صدقا مطلقا فإن تلك المفاهيم تكون صادقة وبديهية وهما صفتان  ملازمتان للحقائق والمفاهيم الرياضية لهذا فلا يمكن أن تكون موجودة في عالم الحواس لأنه متغير بينما تلك المفاهيم دقيقة ومنه فالعقل لم يفتقر في البداية إلى مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن من تصور مفاهيم الرياضيات بل هي موجودة فيه فطريا وقبليا وهو ما يؤيده أيضا زعيم الفلسفة النقدية إيمانوال كانط الذي يعتبر أن المكان والزمان مفهومان مردان سابقان لكل تجربة ولا يمكن للمعرفة أن تتم إذا لم تنتظم داخل إطار الزمان والمكان القبليان ونجده يقيم أفكار العقل إلى صنفين أفكار تحليلية قبلية أي قبل التجربة تمتاز بأنها كلية وثابتة وواحدة لدى الجميع وأفكار تركيبية بعدية أي بعد التجربة فالأولى ذاتية في العقل أما الثانية فهي مكتسبة يصنف كان المفاهيم الرياضية في القسم الأول لهذا فهي عقلية خالصة مستقلة عن أي تجربة حسية وبخلاف هؤلاء الثلاثة يوجد الكثير من المؤيدين لهذا الطرح ومنهم المنطقي غوبلو الذي يرى أن مبادئ الرياضيات افتراضية إبداعية وليست تجريبية مكتشفة حيث يقول<إن العلوم التجريبية تدرس ما هو موجود وتعلله لكن العوم الرياضية لا تحتاج إلى التجربة في منهجها وعلمها لأن مادتها مجردة ولا يمكن التجربة عليها> وبتالي يتفق كل هؤلاء على تجريدية وفطرية مبادئ علم الرياضيات.
لقد وفق العلانين إلى حد بعيد في طرحهم السالف عندما ربطوا بين الثبات والمفاهيم الرياضية وفي إبرازهم لقيمة العقل في الابتكار والإبداع الرياضي  ولكنهم بالمقابل لم يوفق عندما ربطوا تلك المفاهيم كليا بالفطرة فلو كانت كذلك للإستطاع العقل الإنساني تعلم الرياضيات ومبادئها تجريدا مباشرة لكن الواقع يثبت أن الطفل الصغير لا يدرك فكرة العدد إلا وهي مخالطة للمعدود الحسي كما لا يدرك الأشكال الهندسية إلا وهي ممازجة لأجسام حسية ومنه فليست المفاهيم الرياضية مفاهيم عقلية مجردة تماما من الحس.
وبخلاف الطرح السالف رأى التجريبيين أمثال جون لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت ميل وغيرهم أن المفاهيم الرياضية مبادئ حسية مكتشفة من العالم الحسي بواسطة الحواس الخمس المرتبطة بالبدن لا بالعقل.
حيث استند جون لوك إلى نقد نظرية الأفكار الفطرية حيث أن الطفل الصغير لا يمتلك هذا النوع من الأفكار وبتالي فليست موجودة أصلا وعليه فالعقل يولد خالي من أي فكرة لهذا قال<إن العقل يولد صفحة بيضاء> وهذا يعني أن المعارف كلها بما فيها المبادئ الرياضية مكتسبة وما هو مكتسب يؤخذ من العالم الحسي الواقعي الخارج عن الذات ووسيلة الاتصال بهذا العالم هي الحواس الخمس من هنا يؤكد جون لوك على الأصل التجريبي الحسي للمفاهيم الرياضية المحتواة في العقل ولهذا فإن كل مفهوم رياضي تجريدي في الذهن له مقابل في عالم الأشياء والظواهر الحسية  فكل معرفة عقلية هي صدى لادراكاتنا الحسية عن هذا الواقع لهذا نجد التجريبيين يتفقون حول مبدأ واحد هو <لا يوجد شيء في الذهن ما لم يوجد من قبل في التجربة> فالأشكال هندسية مثل الدائرة والقرص والمثلث كلها متعلقة بظواهر طبيعية كرؤية الشمس والقمر  حيث يقول جون ستيوارت ميل<إن النقط والخطوط والدوائر التي يحملها كل واحد في ذهنه هي مجرد نسج من النقط والخطوط والدوائر التي عرفها في التجربة> لذلك نجد أن علم النفس يؤيد هذا التفسير حيث ان الطفل في سنين تعلمه الأولى لا يجيد الحساب إلا إذا أقترن بأشياء حسية فإذا سئل 1+1كم يساوي لن يعرف المجموع لكن إذا أعطي برتقالة مثلا ثم أضيفت له أخرى فإنه يدرك أنهما اثنان ومن الناحية التاريخية فقد ارتبطت الرياضيات عند المصرين والبابليين بالممارسات التجارية والمسلمين ابتدعوا الأعداد الناطقة من خلال تقسيم تركة الميراث حتى الهندسة عند المصرين ارتبطت بظاهرة طبيعية هي فيضان نهر النيل الذي كان يؤدي في كل مرة إلى إتلاف الحدود بين الأراضي وإعادة تقسيمها استلزم على المصرين تعلم قواعد حساب المساحات ولهذا معنى عند فحص المدلول  اللغوي لكلمة هندسة باللفظ اللاتيني(جيومتري) والتي تعني قياس الأراضي  وكذلك شان رموز الأعداد عند المصرين القدامى التي كانت مستنبطة من حركات يدوية كوضع اليد عل جبهة الرأس للتدليل على العدد مائة ونجد أن حتى مفهوم الاحتمالات الذي يشكل مرحلة متقدمة من الفكر الرياضي ارتبط بلعبة النرد الشعبية وبتالي فإن ما  يثبته تاريخ الرياضيات بصفة عامة هو أن الرياضيات المشخصة كممارسة واقعية سابقة عن الرياضيات كعلم مجرد ومنه فقد ارتبطت بالحواس أولا وهذا ما أيده جورج سارطون صاحب كتاب تاريخ العلم عندما قال<إن الرياضيات المشخصة هي أولى العلوم نشوءا فقد كانت في الماضي تجريبية وكانت خاضعة لتأثيرات صناعية عملية ثم تجردت من هذه التأثيرات وأصبحت علما عقليا>.
لقد وفق التجريبيين إلى حد بعيد في طرحهم السالف خاصة عندما أشاروا إلى ضرورة اقتران العدد بالمعدود من اجل تعلم الحساب وهذه حقيقة علمية يستند عليها علم النفس المعاصر في المنظومات التعليمية الخاصة بمادة الرياضيات خاصة في المرحلة الإعدادية حيث يعتمد على وسائل حسية لتعليم الحساب كالقريصات والخشيبات لكن الحقيقة التي لا يمكن موافقتهم فيها هي إرجاعهم كل مبدأ رياضي إلى شيء حسي ولو كانت التجربة الحسية هي المصدر الوحيد للمفاهيم الرياضية لكان لكل مفهوم رياضي مقابل حسي في العالم الطبيعي كما يدعي الحسيين لكن الواقع يثبت وجود الكثير من المفاهيم مثل اللانهاية والأعداد السالبة والمركبة وغيرها ليس لها مقابل حسي وبتالي فليست التجربة الحسية هي المصدر الوحيد لمبادئ علم الرياضيات.
نجد أن هذين المهذبين المتعارضين في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية قد فصلوا تماما بين العقل و التجربة ، رغم أن تاريخ الرياضيات يبين لنا أن المعاني الرياضية لا يمكن اعتبارها أشياء محسوسة كلها ، و لا مفاهيم معقولة خالصة ، بل يمكن أن يتكاملا معا لتفسر نشأة المعاني الرياضية ، لأن هذه المعاني لم تنشأ دفعة واحدة ، بل نمت و تطورت بالتدرج عبر الزمن ، فقد بدأت المفاهيم حسية تجريبية في أول أمرها ، ثم تطورت و أصبحت مفاهيم استنتاجية مجردة ، بل تعبر عن أعلى مراتب التجريد ، باستعمال الصفر ، الأعداد الخيالية ، و المركبة ، و المنحنيات التي لا مماس لها ويلخص بوانكاري هذا الطرح عندما يقول<لو لم يكن في الطبيعة أجسام صلبة لما وجد علم الهندسة ولكن الطبيعة بدون عقل مسلط عليها لا معنى لها> كما أن علم النفس المعاصرة يثبت صعوبة الفصل في المعرفة الواحدة بين ما هو حسي فيها وما هو عقلي لهذا قال " بياجي " : " إن المعرفة ليست معطى نهائيا جاهزا ، و أن التجربة ضرورية لعملية التشكيل و التجريد ".
ومن كل التحليل المنهجي السالف نستنتج أن لا العقل لوحده يمكنه تفسير أصل نشأت المفاهيم الرياضية ولا الحواس لوحدها قادرة على ذلك لذلك وجب الجمع بينهما أي أن العقل والحواس معا متكاملان ومتمازجان يفسران نشأت مبادئ علم الرياضيات لذلك يمتنع الفصل بينهما ليس في مسألة المعارف الرياضية فحسب بل في كل أصناف المعارف الإنسانية الأخرى. وأما بخصوص علم الرياضيات فإنه يبقى أرقى العلوم دقة وتميزا وذلك ناتج من طبيعة موضوعاته ومناهجه المنسجمة معها والتي تنتج عنها حقائق صارمة إنبهر الكثير من الفلاسفة والعلماء بها.
                    الفقير إلى رحمة الله ودعواتكم أخوكم في الله ومحبكم فيه  أستاذ المادة: دلسي محمد