لقد وصف أرسطو
الإنسان بأنه الحيوان المدرك الوحيد كونه الوحيد الذي يمتلك قدرات عليا كالذكاء
والخيال والتذكر بينما الإحساس وظيفة مشتركة لدى جميع الكائنات من حيث أنه يقترن
بالحواس والمؤثرات الخارجية المباشرة ومن هنا طرحة العلاقة بين هاتين الوظيفتين
المعرفيتين لدى الإنسان فذهب علماء النفس الكلاسيكيين إلى الفصل التام بينهما
اعتبارا لاختلافهما في الطبيعة والقيمة
بينما رأى علماء النفس المعاصرين عكس
ذلك حيث جعلوا من الإحساس والإدراك وجهين مختلفين لوظيفة نفسية واحدة متصلة
يستحيل الفصل بين أجزائها وهنا نجد أنفسنا أمام موقفين متناقضين كليا وهو ما
يدفعنا إلى التساؤل : هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك؟
برى الكلاسيكيين (العقلين والحسين ) أنه من الضروري الفصل بين الإحساس
والإدراك وإن اختلفوا في طبيعة تبرير هذا التمييز.
حيث رأى العقلين أمثال أفلاطون وديكارت وليبنتز أنه من المتعذر إثبات أي
صلة تواصلية بين الإحساس والإدراك وذلك راجع للاختلاف الجذري بينهما النابع عن اختلاف
طبيعتهما وتفاضلهما في القيمة المعرفية،وقد عبر أفلاطون عن هذا الموقف من حلال
نظريته في المعرفة المبنية على تقسيم الوجود
إلى صنفين متباينين عالم المثل والمعقولات الثابتة والأزلية المطلقة
وعالم الحس ذو الطبيعة المتغيرة النسبية والفانية وينسجم هذا التصنيف مع ثنائية الروح والبدن عند أفلاطون فنجد
طبيعة الروح عنده تتوافق مع ميزات عالم المثل ومن هنا يقرر أفلاطون أن النفس قبل
حلولها بالبدن كانت تحي في عالم المثل وتشاهد الحقائق والصور الثابتة لكن عند
مخالطتها للبدن الحسي نسيت كل تلك الصور والحقائق ولهاذ فان ممارسة فعل المعرفة
عند أفلاطون تقوم على أساس وظيفة التذكر فقال قديما "المعرفة تذكر والجهل
نسيان " وفي مقابل هذا يربط أفلاطون بين طبيعة البدن الفانية والنسبية
وطبيعة عالم الحس المتغير والنسبي ومن خلال كل ما سبق يضعنا أفلاطون أمام مرتبين
من الوجود تقابلهما مرتبتين من المعرفة معرفة البدن النسبية المتوجهة نحو عالم
الحس عن طريق الإحساس ومعرفة الروح التي تنشد عالم المثل عن طريق وظيفة التذكر
والإدراك العقلي وينفي أفلاطون أن تكون أي صلة بين معرفة الروح ومعرفة البدن
ومنه فلا وجود لأي صلة بين الإحساس والإدراك ويوضح الفيلسوف الألماني ليبتز هذا
الموقف جيدا عندما يقول "لا يمكن أن تكون الأفكار الموجودة في الروح مأخوذة
من الحواس وإلا وجب أن تكون الروح مادة والروح ليست مادة " ومنه فالمعرفة
الحسية التي تتم بالإحساس ليست صورة كاملة عن الحقيقة بل هي عند أفلاطون ظل لها
وصورة مشوهة عنها وهنا يبدو تفاضل الإدراك عن الإحساس ، ونجد أبو الفلسفة
الحديثة روني ديكارت يؤيد هذا الفصل الذي أقره من قبله أفلاطون حيث يؤكد أن العقل
ملكة مستقلة قادرة على الوصول إلى المعرفة انطلاقا من مبادئها الخاصة الفطرية فقط
أي أن العقل يحصل المعرفة حتى في غياب المعطيات الحسية، فتكون معرفته قبلية
وسابقة عن كل تجربة. ونجده في التأمل الثالث من كتابه تأملات يقسم أفكار النفس
إلى ثلاثة أصناف أدناها الأفكار الاتفاقية أو الخارجية العارضة ويقصد بها
الأفكار الحسية أو ما ينطبع في عقولنا حين ندرك الأشياء المادية الخارجية
بالإحساس مثل الألوان والطعوم وهذا النوع من الأفكار لا قيمة له في بناء معرفة
دقيقة لأن مصدره الحواس وهي تخدعنا
كرؤية العصا منكسرة في الماء وكما يقول ديكارت"لا تطمئن لما يخدعك ولو لمرة واحدة"
تليها الأفكار الخيالية أو المصطنعة ويقصد بها تلك الأفكار التي نصل إليها بفعل
المخيلة ويكونها الخيال على أساس الأفكار الحسية فتعتمد على خيال الإنسان
وقدراته على إيجاد أفكار لا وجود لها في الواقع رغم أن عناصرها موجودة فيه مثل
فكرة الحصان المجنح وكذلك فكرة حيوان له
وجه إنسان وجسد أسد مثل أبو الهول وأفكارنا عن كائنات تسكن كواكب أخرى وهذه الأفكار ليس لها قيمة لأنها تعتمد على
الإحساس والخيال وكلاهما لا قيمة له في مجال المعرفة الحقة وثالث أصناف الأفكار
عند ديكارت وأعلاها مرتبة هي الأفكار الفطرية وهي مبادئ يزود بها الطفل عند
ولادته يضعها فيه الإله بالفطرة ومن هنا فهي بديهية تدرك بالحدس لا تبرهن بل إن
البرهان يبنى عليها ومنه فلا وجود لأي صلة بين الإحساس والإدراك كمعرفة قبلية
فطرية لأن كل إدراكتنا المعرفية صادرة بصورة قبلية من العقل الفطري وهنا تبدو
المفاضلة بين معرفة الإحساس الساذجة ومعرفة الإدراك اليقينية،
ورغم الاختلاف
الجذري في الطرح إلا أن الفلاسفة الحسين يوافقون العقليين في هذا الفصل بين
الإحساس والإدراك لا من حيث القيمة بل انطلاقا من الدرجة أو شدة التعقيد فالعقل
عندهم ملكة تابعة للإحساس عاجزة عن أنشاء أفكار ذاتية خاصة بل إنه(العقل ) ليس
أكثر من مستودع للخبرات والصور الحسية
ومنه فكل المدركات العقلية ما هي في الحقيقة سوى خبرات حسية تحصلنا عليها
شيئا فشيئا نتيجة انطباع صور المحسوسات ومن هنا يقول التجريبيين "لا وجود
لشيء في الأذهان ما لم يوجد أولا في الأعيان" فلا وجود لأفكار فطرية وكما
يقول جون لوك "العقل صفحة بيضاء تسجل عليها التجربة ما تشاء" ومنه
فالحواس هي نوافذنا نحو معرفة العالم الخارجي ومادة المعرفة لهذا فمن "فقد
حسا فقد معرفة " كما قالها أرسطو قديما وهيوم حديثا وبتالي فكل المعارف عند
الحسيين بعدية مكتسبة بالتجربة الحسية وعلى هذا يكون الإحساس هو مصدر المعرفة
والمتحكم في المدركات والموجه لها ومن ثم التميز بين الإحساس و الإدراك وجعل الإحساس أعلى مرتبة من الإدراك.
إن الاختلاف بين
الإحساس والإدراك أمر صحيح لا يمكن إنكاره لكنه لاستلزم الفصل كما ذهب إلى ذلك
كل من التجريبيين والعقليين فالاختلاف لا يعني ضرورة الفصل بل قد يكون المختلفان متكاملان ومتواصلان فالإدراك
العقلي يعتمد في الأساس على ما تنقله الحواس لأن الإحساس هو الجسر الذي يعبره
العقل أثناء إدراكه للموضوعات وهذا يعني أن للإحساس وظيفة يؤديها في عملية
الإدراك وبدونه يصبح الإدراك فعلا ذهنيا مستحيلا وهذا ما أغفله العقليين أما
الحسيين فقد بالغوا في جعل الإحساس الأساس الوحيد لكل معرفة إنسانية فالإدراك
ليس مجرد تجميع للأحاسيس ولا يمكن إغفال أن المعرفة الحسية في مجلها ساذجة وتقع
في الخداع والخطأ
وبحلاف ما سبق يرى
علم النفس الحديث الممثل في الجشطالتيين والظواهريين أنه من المتعذر الفصل بين
الإحساس والإدراك لأنهما يمثلان وجهين مختلفين لظاهرة نفسية واحدة واحدة.
حيث ترى مدرسة
الجشطالت بزعامة كل من كوهلر وفرتهيمر ت أن الإدراك ليس مجموعة إحساسات
وهو ما تدل عليه
بوضوح كلمة جشطالت التي تعني" الشكل أو الصيغة " والصيغة هي وحدة
منظمة ومتماسكة مكونة من مجموعة أجزاء متفاعلة ومتواصلة بحيث أن تلك الأجزاء
المكونة للصيغة الكلية لا يمكن فهمها منعزلة عن الوحدة الكلية ومنه فالصيغة
الكلية هي التي تعطي للأجزاء معناها وصفاتها فالأنغام الموسيقية لا قيمة لها إلا
في تواصلها ضمن قطعة موسيقية متماسكة وكلية كذلك الأمر في سقوط الأمطار فنحن لا
نركز ذهننا على الحركات الجزئية للقطرات الصغيرة بل ندرك الحركة الكلية للأمطار
المتساقطة التي تفرض نفسها علينا كمعطى موضوعي مباشر لا تكون الأولوية فيه
للعناصر الجزئية بل للأشكال الكلية ومن هنا تصبح الصيغة الكلية هي أساس الإدراك
الذي يعود إلى عوامل خارجية موضوعية والدليل على ذلك أن إدراك العناصر الجزئية
يكون مختلفا تبعا للشكل الذي تنتمي إليه فنحن مثلا لا ندرك في هذا الشكل
......... كل نقطة على حدى بل ندرك من الوهلة الأولى سلسلة من النقط ويمكننا إدراكها على هيأة أحرى إذا غيرنا
بنيتها العامة إلى هذا الشكل .. .. .. ..
حيث ندرك سلسلة النقط مثنى مثنى وإذا ما نحن أضفنا إلى هذه السلسة عنصرا
أخر تغير إدراكنا لها كذلك مثل الصيغة التالية .._.._.._.. والملاحظ من كل هذا
أن تغير الصيغة الكلية في كل مرة أدى إلى تغير إدراكنا للعناصر الجزئية ومنه
فالبنية الكلية الخارجية هي التي تحكم عملية الإدراك وتفرض قوانينها علينا وبذلك فهي تحد من
قدراتنا العقلية حيث يكون نشاط الذهن شكلي وليس رئيسي تابع لشكل وبنية الموضوع
الخارجي ومحكوم به لأن أي تغير في الصيغة ينتج عنه تغير ضروري في الإدراك العقلي
وعلى هذا فإن المدرسة الجشطالتية لم تأخذ بالعوامل الحسية لوحدها ولا بالعوامل
العقلية فقط بل أخذت بالإحساس والإدراك معا،ونجد الظواهرية بزعامة هوسرل ترفض
الفصل بين الإحساس والإدراك حيث ترى أن الإدراك ليس تأويل للإحساس بل هو امتلاك
المعنى الداخلي عن المحسوسات قبل إصدار أي حكم ولذلك فالعالم الموضوعي ليس هو ما
نفكر فيه بل الذي نحياه ونقصد إليه وعليه فإن كل شعور هو شعور بشيء خارج عنه أي أن
الشعور الداخلي يقصد دائما شيء موجود في العالم الخارجي ويمكن التوضيح أكثر
بمثال الطفل الذي يفتح صندوق على قصد أن يجد فيه حلوى ولكن وجد فيه أقلاما فهنا محتوى الشعور
الداخلي مختلف عن المحتوى الخارجي فيصحح محتوى الشعور ولهذا عنيت الفينومينولوجيا
بوصف الظواهر كما تبدو في الذهن ثم تعود للوجود من أجل تصحيح هذا التصور أو
تثبيته وسواء كان الشعور المقصود أو المنوي صحيح أو خاطئ فأنه يبقى حول العالم
الخارجي وليس ذاتي ومن هنا يتبدى بوضوح ترابط الإحساس والإدراك حيث لا وجود
لإحساس خالص ليس مسبوق بشعور ذهني كما لا يوجد إدراك ذهني غير مرتبط بشي حسي لأن
كل شعور هو شعور بشيء وبتالي فلا يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك.
لكن ورغم كل
الانتقادات التي وجهتها المدرستين الجشطالتية والظواهرية للاتجاهين العقلي
والحسي إلا أنهما لم يسلما هما أيضا من النقد ذلك أن الجشطالتين مالوا إلى
التركيز على الشروط الخارجية والعوامل الموضوعية الخارجية لعملية الإدراك وهو ما
يشكل إقصاء للعقل وقدراته الذاتية فجعلت دوره شكلي في العملية الإدراكية رغم أن
الذهن ليس إطارا سلبيا يستقبل فقط بل هو فعال يبني العملية المعرفية ،أما
الظواهرية فقد غلبت الشعور الذاتي للإدراك على العالم الخارجي وعوامله الموضوعية
وهو ما يؤدي إلى العجز عن الحكم الموضوعي لاختلاف التجارب بين الذوات المدركة.
إن الإدراك عملية
نشيطة عليا يعيشها الإنسان فتمكنه من الاتصال بالموضوع الخارجي أو الداخلي وهو
عملية مصحوبة بالوعي فتمكنه من التعرف على الأشياء والإدراك يشترط لوجوده عمليات
شعورية بسيطة ينطلق منها وهو الإحساس ووجود الموضوع الخارجي الذي تتوجه إليه
الذات المدركة وهو ما يعرف بالموضوع المدرك ومن هنا يصعب التمييز بين الإحساس
والإدراك كما أشار إلى ذلك أرسطو قديما من خلال نظريته في المعرفة المبنية على
إدراك الصور الكلية انطلاقا من تجريدها العقلي من المحسوسات الجزئية وهو ما
يدفعنا إلى تغليب موقف علم النفس الحديث رغم ما يوجد فيه من نقائص.
ومن كل التحليل
السابق نستنتج أن الإحساس والإدراك ظاهرتين مختلفتين سواء في المصدر حيث أن
الإدراك عملية عقلية بينما الإحساس يتم بالحواس
أو في الطبيعة حيث أن الأولى معقدة بينما الثانية بسيطة أولية لكن هذا
الاختلاف لا يعني أبدا الانفصال بل إنهما متكاملان ومتواصلان ضمن نسق المعرفة
الإنسانية فلا يمكن الاستغناء على أي واحد منهما لذلك فيمكن اعتبارهما وجهين
مختلفين لعملية نفسية إنسانية واحد.
|