القائمة الرئيسية

الصفحات

مقالة جدلية حول الإدراك






يمكنك قراءة الموضوع مباشرة أو تحميله من الرابط أسفله


تحليل مقالة جدلية
السؤال:هل ندرك الأشياء كما هي موجودة في العالم الخارجي أم كما تتصورها ذاتنا؟



يتعامل و يتفاعل الإنسان مع الأشياء في العالم الخارجي وهو يحاول في كل مرة التواصل معها وإدراكها كي يتسنى له الاستفادة منها وباعتبار أن هذه الأشياء موجودة خارج الذات الإنسانية بينما يتم معرفتها في الذات فقد نشأ الخلاف بين الفلاسفة في طبيعة وعملية الإدراك فقال البعض أن الذات هي التي تتحكم في معرفة الأشياء من خلال تأويلاتها وهم العقليين بينما قال الجيشطالتين خلافا لهذا أن الشيء يدرك كما هو موجود في العالم الخارجي أي الموضوع هو من يفرض نفسه على الذات المدركة فيا ترى كيف تتم عملية الإدراك؟ هل تتحكم فيها عوامل موضوعية ثابتة؟أم أنها ترجع إلى عوامل ذاتية متغيرة بين الأشخاص؟ بمعنى أخر هل ندرك الأِشياء كما هي موجودة في العالم الخارجي؟
يذهب العقليين أمثال ألان وديكارت وليبنتز إلى اعتبار الذات المتحكم الأول في عملية الإدراك فهو عندهم عملية عقلية معقدة تتمثل في تأويل وتفسير الانطباعات الحسية بفضل أحكام واستنتاجات العقل .
حيث نجدهم يميزون بين الأفكار التي هي أحوال نفسية موجودة في الذات وبين الأشياء المادية الموجودة في العالم الخارجي وحسب ديكارت فإن الأفكار ليست نسخ عن عالم الأشياء كما تنقله لنا الحواس لان المعرفة الحسية لا تعرفنا بطبائع الأشياء كون حواسنا معرضة للخطأ لهذا قال ديكارت <الحواس لا تعلمنا طبيعة الأشياء >   ومنه فهناك تميزا واضحا بين الفكرة المدركة عن الشيئ وصفاته الحسية المادية وهذا ما عبر عنه ليبنتز قائلا <لا يمكن أن تكون الأفكار الموجودة في الروح مأخوذة من الحواس وإلا وجب أن يكون الروح مادة والروح ليست مادة> وإدراك الأِشياء هنا يكون وفق تصورات الذات فهي التي تضفي عليها معناها الخاص فتصبح أفكار أما الصورة الحسية فهي لا تعبر عن أي معنى ومن هنا يبدو نشاط الذهن عامل محوري في عملية الإدراك الذي يقوم على فعاليات الذات العليا كالخيال كما يثبت ذلك ألان من خلال مثاله الواقعي عن المكعب فمن المستحيل رؤية أوجهه وأضلاعه كلها دفعة واحدة بل في أحسن الأحوال نرى ثلاثة أوجه من أصل ستة ولا تنقل لنا الرؤيا أيضا سوى تسعة أضلاع من أصل إثنى عشرومع ذلك ندرك أنه مكعب وبتالي فهو معقول وليس محسوس  وكذلك الأمر في البعد الثالث فهو لا يرى من خلال رسومات في ورق مسطح لا يوجد فيه عمق إلا أن العقل يستطيع أن يدركه بوضوح من خلال استنتاجاته الذاتية  ويؤيد كانط هذا الرأي عندما يقول <المكان والزمان مقولتان سابقتان عن التجربة> فهما مقولتان عقليتان لا يتولدان من التجربة الحسية بل صادران عن الذات المدركة ولا شك أنه من المتعذر إدراك الأشياء من دون وضعها في حيز مكاني وإطار زماني فنحن نستطيع تصور زوال الأشياء من المكان لكننا لا نستطيع أبدا تصور زوال المكان من الأشياء والزمان هنا شيء عقلي مجرد لا يمكن إدراكه بالحواس ومن حجج النظرية الذهنية  الأساسية إدراك المسافة التي لا يمكن عدها صفة حسية بل علاقة مجردة ولذلك لا يمكن أن تدرك إلا بفضل استنتاجات عقلية وفي هذا يقول باركلي<إن تقدير مسافات الأشياء البعيدة ليس إحساسا بل حكم مستند إلى التجربة> مما جعله يعتقد أن الأعمى إذا استرد بصره لن تكون لديه أي فكرة عن المسافة البصرية فالشمس والنجوم وأقرب الأشياء وأبعدها تبدو له جميعا موجودة في عينه وهذا ما أثبتته تجارب الطبيب الإنجليزي شيلز لندن لهذا قال ألان <هذا الأفق البعيد لا أراه بعيدا وإنما أجكم عليه بالبعد> وهذا يعني أنه ليس ما نراه ونسمعه هو ما ندركه أي لا ندرك الأشياء كما هي موجودة في الخارج بل كما تتصورها الذات  وما يثبت تدخل الذات في عملية الإدراك هو أن موضوعه قد يكون واحدا لكن إدراكنا له بكون مختلفا كالشخص السعيد المتفائل والشخص الحزين المكتئب فكل منها يدرك العالم بطريقة مختلفة عن الآخر وحتى بالنسبة للشخص الواحد في حالتين شعوريتين مختلفتين وهذا ما قصده جون بول سارتر حين قال <إن إدراك الإنسان للعالم الخارجي أثناء الهيجان مختلف تماما عن الإدراك العادي> ومنه فالإدراك عند العقليين يقوم على عوامل ذاتية محضة.
إن ما يثبته المذهب العقلي بوضوح هو أن نشاط الذات في عملية الإدراك أمر لا يمكن إنكاره لكن  ليس على حساب التجربة الحسية فالأشياء مستقلة عن ذواتنا وبدون معطيات حسية موضوعية لا يمكن معرفتها أصلا لأن الشيء في النهاية هو موضوع الإدراك فهو المعروف لذلك لا يمكن إهمال دور الحواس والوجود الحسي للشيء المدرك في عملية الإدراك والدليل على ذلك يظهر في أن أي تغير في شكل الشيء ووجوده يؤدي إلى تغير إدراكنا له.
وبخلاف الطرح السالف ترى المدرسة الجيشطالتية بزعامة فيرتهيمر وكوهلر وكوفكا أن إدراك الأشياء يخضع إلى عوامل فيزيائية خارجية  وفيزيولوجية  موضوعية يفرضها الشيء المدرك على الذات المدركة التي لا تتعدى وظيفتها حدود تلقي الصور الأشياء المادية.
حيث ترى هذه الأطروحة أن الإدراك يتوقف على عامل موضوعي هو الشكل العام للأشياء أي صورتها وبنيتها التي تتميز بها  فالإدراك عندهم يبدأ أولا دفعة واحدة على شكل صورة أو صيغة أي وحدة كلية منظمة متماسكة متداخلة الأجزاء متفاعلة لا يمكن تفكيكها فالوحدة في الصورة أو الصيغة تطغى على الجزء ولذلك فإن أي تغير في الصيغة يغير من إدراكنا للجزء ومنه يحكمون بموضوعية الإدراك وحجتهم في ذلك أن تغير الشكل الخارجي يؤدي إلى تغير إدراكنا له بالضرورة فعندما نضع النقط التالية على هذا الشكل .... ثم نغير شكلها إلى ..  .. لاشك أن إدراكنا لها يختلف عن الصورة الأولى ومنه فكل تغير في شكل الموضوع الحارجي يؤدي إلى تغير في إدراكنا له وبتالي فالعوامل الموضوعية هي التي تتحكم في عملية الإدراك ونشاط الذهن يكون شكليا ويتمثل في تلقي الصورة الخارجية كذلك تغير تنظيم الأنغام الموسيقي يؤدي إلى تغير إدراك القطعة الموسيقية وإدراكنا للشخص الواحد ي مرحلتين مختلفتين من العمر أو بلباسين مختلفين يكون مغايرا  ومن الأمثلة التي توضح لنا أهمية الصورة والشكل أن المثلث ليس مجرد ثلاثة أضلاع بل حقيقته تكمن في الشكل والصورة التي تكون عليها هذه الأضلاع بحيث يجب أن تكون متصلتا حتى يكون الشكل مثلثا وعلى هذا فالإنسان يدرك الأشياء كما هي موجودة في العالم الخارجي أي أنه يدرك ما يسمع وما يراه وذلك وفق قواعد من أهمها التقارب والتشابه لذلك نجد أن الإنسان يدرك أرقام الهاتف بسهولة إذا كانت متشابهة وما يؤكد أيضا أن الإدراك يكون وفق عوامل موضوعية هو اتفاق الناس في الحكم على ما يرونه فكل الناس يدركون أن لون البحر أزرق وأن الثلج أبيض فلو كان الإدراك يتوقف على فعالية الذات وتأويلاتها لكان إدراكنا للشيء الواحد مختلفا لكن الواقع يثبت تشابه إدراك الشيء الواحد بين الناس ومنه فالشيء الخارجي يفرض نفسه كمعطى نهائي جاهز للإدراك وما على الذات المدركة سوى تلقي صورته كما هي دون تغيراو تأويل وكل هذا يدل بوضوح أن صفات الأشياء التي ندركها ليست صفات تمنحها الذات بل هي صفات الشيء الموجود في العالم الخارجي وعلى هذا تكون العوامل الموضوعية هي المتحكمة في عملية الإدراك.
لقد وفق الجيشطالتيين في إبراز قيمة العوامل الموضوعية في عملية الإدراك حتى أن هذه النظرية باتت توظف في عملية الإشهار لدفع الناس إلى الانتباه للمنتجات الاستهلاكية من خلال تغير شكلها وتزينه لكنها بالمقابل تقصي دور العقل والعوامل الذاتية لكن الواقع يثبت أن نفس الأشياء قد يختلف الناس حول إدراكها فقد نرى ظاهرة واحدة ولكن ندركها بشكل مختلف تماما فهناك مثلا من يتفائل بسقوط المطر وهناك العكس من يتشاءم بمظهرها وهو ما يثبت دور الذات في عملية الإدراك .
إن نظرة كل واحدة من الأطروحة السالفتين للمشكلة كانت نظرة أحادية تميل إلى الفصل بين ما هو موضوعي صادر عن الشيء المدرك وما هو ذاتي صادر عن الذات المدركة بينما إن كان هذا الفصل يبدو ممكنا من الناحية النظرية والفلسفية فغنه بالمقابل غير ممكن من الناحية العملية لان أي تأثير سواء على الذات أم على الموضوع يؤثر على عملية الإدراك فتغير صفات الشيء ينتج عنها تغير إدراكنا له كما أن فقدان الذاكرة مثلا يحول دون إمكانية الإدراك.
ومن كل التحليل السالف نستنتج أن الإدراك عملية معرفية نفسية معقدة  ومركبة تقوم على تأويل الصور الحسية الجزئية لإعطائها معنى كلي غير أن هذا التأويل الذي تقوم به الذات المدركة لن يكون نشطا خالصا لها بل إنه متأثر بخصائص الأشياء وصفاتها الحسية الموضوعية التي تفرض نفسها على الذات كمعطى موضوعي جاهز للإدراك.