يمكنك قراءة الموضوع مباشرة أو تحميله من الرابط أسفله
|
السؤال: هل تعتقد الحقائق الرياضية
مطلقة اليقين؟
|
لقد
شكل انفصال علم الرياضيات عن الفكر الفلسفي حدثا بالغ الأهمية في تاريخ العلم
حيث انه احدث قلبا جذريا على مستوى الفكر العلمي حين نقله من مجال التقدير الوصفي الفلسفي إلى التقدير الكمي
المجرد للظواهر وهو ما أهل اللغة
الرياضية الرمزية المجردة كي تكون لغة جديدة للعلم بصفة عامة ومن هنا اعتقد
البعض اعتقادا جازما بدقة الحقيقة الرياضية ومطلقية يقينها كونها تقوم على مبدأ
الوضوح والبداهة في حين رأى البعض الأخر من فلاسفة الرياضيات أن ظهور المنهج
الرياضي الأكسيومي أدى إلى انهيار معرفي إبستيمولوجي لقيمة الحقيقة الرياضية حيث
جعل من اتساق المقدمات مع نتائجها معيار لها وهو ما ينقلها لمجال النسبية وهنا
برز تعارض وتناقض بين الفلاسفة في تحديد قيمة المعرفة الرياضية ومعيارها وهو ما
يستدعي طرح هذا التساؤل عله يرفع ذلك اللبس: هل معيار الحقيقة في الرياضيات يكمن في
البداهة والوضوح أم في اتساق النتائج مع المقدمات؟ وهو ما يبرز عنه إشكال آخر هو
هل الحقيقة الرياضية مطلقة اليقين أم نسبية؟.
يرى
ممثلو الرياضيات الكلاسيكية أمثال واضع مبادئها إقليدس وفيتاغورس وأفلاطون
ومؤيديهم من فلاسفة العصر الحديث أمثال ديكارت وكانط أن حقائق الرياضيات تمثل
النموذج الأرقى والمطلق لليقين كونها مبنية على أسس معرفية ثابتة ومشتركة لا
يمكن لأي عقل رفضها أو تجاوزها هي البديهيات الضرورية الفطرية ومن هنا كانت
البداهة والوضوح صفة مميزة للحقيقة الرياضية المطلقة دون غيرها من أصناف حقائق
العلوم الأخرى.
حيث
تدرس الرياضيات المفاهيم الكمية المجردة القابلة للقياس بطابع عقلي خالص الأمر
الذي مكنها من الوصول إلى نتائج دقيقة وواضحة تنتج عن المقدمات بطريقة اضطرارية
وجوبية مما يضفي عليها الصرامة المنهجية التي تمنعها من الوقوع في الخطأ ويؤكد
تاريخ الرياضيات أن مرحلتها الكلاسيكية بدأت قبل العصر الحديث بقرون عدة على يد
مؤسسها الأول إقليدس(330ق.م/270ق.م) الذي نجده يميز بين ثلاث أصناف من منطلقات
المنهج الرياضي الإستناباطي القائم على الاستنتاج هي التعريفات والبديهيات
والمسلمات فالتعريفات هي أولى القضايا التي يلجأ إليها الرياضي من اجل بناء معنى
رياضي وإعطائه تمييزا يختلف عن غيره من المعاني الرياضية الأخرى، ومن أهم
التعريفات الاقليدية الرياضية، نجد تعريف المثلث بأنه شكل هندسي له ثلاثة أضلاع
متقاطعة مثنى مثنى مجموع زواياه تساوى 180درجة. والنقطة هي شكل هندسي ليس لها
أبعاد، أو هي حاصل التقاء خطين.والخط المستقيم هو امتداد بدون عرض ونجد إقليدس يعتبر
البديهية مطلقة الصدق تفرض نفسها على العقل دون حاجة للبرهنة عليها بل بالعكس
تماما إن البرهان نفسه يقوم عليها لذلك لا يمكن رفضها أو تجاوزها ذلك أنها عند
ديكارت مرتبطة بالمبادئ العقلية الضرورية للتفكير ونقضها من قبل العقل يعني نقضه
لذاته بذاته وهو محال ومن هنا وجب أن يكون البرهان الرياضي القائم على ما هو
بديهي بديهي مثله لأن الصدق يؤدي إلى استنتاج الصدق وهو ما يجعل من حقائق
الهندسة والرياضيات حقائق مطلقة الصدق لهذا نجد فيتاغورس يجعل من معرفة
الرياضيات شرط ضروري للمعرفة العلمية مهما كان صنفها فدقة ظواهر العالم الطبيعي
حسبه مستمدة من دقة التنظيم الرياضي لذلك اعتقد أن أصل العالم هو العدد
فقال<إن الأعداد تحكم العالم> ويعبر عن مطلقية الحقيقة الرياضية أفلاطون
حيث كتب عند مدخل اكادميته يقول<من لا يعرف الرياضيات فلا يطرق بابانا>
ذلك أن المبادئ الرياضية ثابتة ومطلقة وأزلية كونها موجودة في النفس منذ الأزل
أي أنها في أصلها ترتد إلى عالم المثل ومنه فمن لا يتمكن معرفة الرياضيات ليس
بإمكانه إدراك ما هو مطلق وبتالي لا يمكنه إدراك عالم المثل الذي هو عالم
الحقائق الفلسفية المطلقة واليقينية والضامن لصدقها ولهذا جعل أفلاطون تعلم
الرياضيات شرط ضروري لمعرفة الفلسفة لأنه يساعد النفس على تذكر ما كانت تعرفه في
عالم المثل كما نجد أب
الفلسفة الحديثة روني ديكارت يبني منهجه وفق النسق الرياضي القائم على قاعتي
التحليل والتركيب حيث يقول<إننا
ننتقل من البسيط إلى المركب لأن البسيط نفسه ما هو إلا حالة خاصة من حالات
المركب> وتعد نتائج الرياضيات النموذج الأرقى للحقيقة حتى من الناحية
المنطقية لأنها تنطلق من قاعدة البداهة التي يضمنها التزام العقل الرياضي
بالمبادئ العقلية الفطرية الضرورية مثل مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض حيث يقول
المنطقي غوبلو<إن الاستدلال الإستنتاجي إنما كان خصبا لأنه يحتوي على عمليات
تركيبية وهو استدلال يقيني لأن هذه العمليات تخضع لقواعد لكن ليست هذه القواعد
منطقية بل هي قضايا سبق التسليم بها إما لأنها بعض بديهيات والمسلمات>ومن أجل
كل هذا صارت الرياضيات اللغة الأرقى للعلم وصارت كل العلوم تحاول التحدث بلغة
رياضية كمية دقيقة حتى تقترب من اليقين
الرياضي فنجد احد الرياضيين يقول<إن اللغة العادية مبهمة جدا لا تصلح للتعبير
عن العلاقات الدقيقة ذلك هو السبب الأول في عدم استغناء العالم الطبيعي عن
الرياضيات إن الرياضيات هي اللغة الوحيدة التي يستطيع العالم أن يتكلم بها> ذلك
أن العالم لا يمكنه الغوص في أعماق الطبيعة للكشف عن أسرارها إلا إذا تعامل معها
بلغة رياضية دقيقة لأنها اللغة التي تفهماها الطبيعة كونها تحليلية كمية قياسية
ليس كما هو الحال مع اللغة العادية التي تبقى في مجال الوصف بدل القياس وقد عبر
عن هذا غاليلي عندما قال<إن الطبيعة لا تجيب إلا عن الأسئلة المطروحة عليها
بلغة رياضية>ومن أجل هذا اندفعت العلوم المعاصرة دون استثناء إلى تبني
الرياضيات محاولة صياغة قوانينها في شكل علاقات رياضية فنشأت الفيزياء الرياضية عل يد كيبلارو نيوتن
وغاليلي والكمياء الرياضية على يد لافوازيه فباتت التفاعلات الكيميائية تتم وفق
معادلات رياضية حيث يقول لوبلون<إن الفيزياء لا تطبق الرياضيات لكنها
تتضمنها> وحسب برونشفيك <فإذا فقدت الفيزياء طابع التقدير الكمي للظواهر
صارت مجرد إحساس بكيفيات قابلة للوصف لا غير> بل حتى العلوم الإنسانية حاول
تجسيد النموذج الرياضي قصد تطوير حقائقها كي تقترب من درجة اليقين الرياضي
فحاولت استخلاص قوانينها على شكل معادلات رياضية أو مخططات بيانية أو نسب مئوية إحصائية
كما هو الحال في علم الاجتماع والديموغرافيا وكل هذا يدل على مطلقة اليقين والصدق
الذي يميز الحقائق الرياضية.
لقد وفق أصحاب هذا الطرح إلى حد بعيد في إبراز قيمة
الرياضيات وحقائقها وتأثيرها المعرفي البالغ على بقية العلوم الأخرى خاصة
التجريبية لكن هذه النظرة المطلقة للرياضيات لم تصمد في العصر المعاصر خاصة بعد
نقد الهندسة الإقليدية وظهور انساق أخرى تتجاوزها مما كشف أن حقائقها افتراضية
وليست بديهية كما ادعى إقليدس وديكارت وبتالي دخلت مجال الشك والاحتمال كبقية
العلوم الأخرى.
وبخلاف الطرح السالف يرى بعض فلاسفة الرياضيات مثل
راسل و بولينقد وألبرت آينشتاين أن الحقائق الرياضية تمتاز بطابع النسبية مثلها
مثل حقائق العلوم الأخرى وتبدو هذه
النسبية بشكل واضح عند الانتقال من مجال الرياضيات المجردة إلى مجال
الرياضيات المشخصة الحسية.
فاليقين
الرياضي المثالي يقين مجرد يفقد ثباته ودقته كلما اقترب من المجال الحسي الواقي
لي يدخل في مجال التقريبيات والاحتمال ويبدو ذلك في مجال الحساب خاصة كون الطابع
التجريدي للمفاهيم الرياضية يجعلها توظف مفاهيم ليس لها مقابل حسي مثل اللانهاية
مما يؤثر على دقتها عند نقلها للمجال الحسي فمثلا10/3=3.33333 فلا وجود لعدد إذا
ضرب في 3 كان الناتج 10إلا بصورة تقريبية لذلك ابتدعت اللغة الرياضية رمزا جديدا
هو رمز التقريب وهذا الرمز نفسه يدل على الاحتمال والنسبية وبتالي صارت
الرياضيات توظف لغة الاحتمال والتقريب للتعبير عن حقائقها وهو ما يدل على
نسبيتها وقد عبر أنشتاين عن هذه المفارقة بين قيمة الرياضيات المجردة والمشخصة
عندما قال< الرياضيات علم دقيق كلما ابتعدت عن الواقع وتفقد
دقتها كلما اقتربت منه> تبدو هذه النسبية في مجال الهندسة المعمارية واضحة
حيث يؤثر هامش التقريب على نمط البنايات كما نجد أن ليبنتز قد أثار قضية جذرية
بخصوص الهندسة الإقليدية التي كان ينظر إليها على أنها هندسة مطلقة بديهية لا
يمكن تجاوزها حيث انه لوكانت تقوم على أوليات واضحة بذاتها لما أمكن الشك فيها
وتجاوزها لكن تاريخ الرياضيات يثبت أن البديهية الخامسة عند إقليدس والقائلة أن من نقطة خارج المستقيم في سطح معين لا يمكننا
رسم سوى موازيا واحدا لهذا المستقيم".انطلق لوباتشفسكي من نقيضها القائل:" من نقطة خارج مستقيم في فضاء مقعر يمكننا رسم ما لا نهاية له من
المتوازيات" و توصل بذلك إلى إنشاء هندسة جديدة موازية لهندسة إقليدس دون
أن يقع في تناقض .أما ريمان فافترض: " من نقطة خارج مستقيم على سطح مكور لا يمكننا رسم و لا موازيا
واحدا" و هكذا نشأت الهندسات اللاإقليدبة وستنشأ معها نتائج أخرى نابعة عن
طبيعة المكان صادقة و مبرهن عليها مثل أن مجموع زوايا المثلث لم يعد مساويا
لزاويتين قائمتين بل أصبح اقل مع لوباتشفسكي 135درجة و أكثر مع ريمان 270 درجة. انطلاقا مما سبق تكون لدينا نتائج مبرهن عليها ليست متناقضة و نكون أمام ثلاث هندسات فما هو
معيار الصدق الذي سيرينا بداهة إحداها عن الأخرى فالحقيقة المطلقة واحدة وليست
متعددة حسب أفلاطون ولكننا أمام ثلاث حقائق مختلفة هذا ما أدى إلى أزمة اليقين
الرياضي حيث أن الأوليات الرياضية هي مجرد مصادرات أي جملة من الفرضيات الممكنة
التي نتواضع عليها و نختارها من بين فرضيات تكون
هي أكثر منطقية فهي فرضية من إنتاج الخيال يدعمها الذهن و الصياغة المنطقية. و
لا نهتم فيها إلا بالصرامة الداخلية أي أن تكون العلاقات بين مقدماتها و نتائجها
خالية من التناقض و شرط صدقها الوحيد هو الصرامة الداخلية.فالرياضي له كامل الحرية في اختيار الفرضيات
التي يحددها و غير مقيد سوى بتجنب الوقوع في تناقض.من هنا
كان المنهج الرياضي المنهج الفرضي الاستنتاجي ذلك أن الرياضي ينطلق من فرضيات
تعتبر مقدمات وبذلك يدحض بوانكاريه النظرة المطلقة لليقين الرياضي مبينا انه لو
كانت الأوليات الرياضية قبلية عندها يجب أن نسلم بأن المسلمة الخامسة صحيحة لا يطالها الشك و
بذلك تستبعد كل قضية أو مسلمة مخالفة نعتبرها ضرورة خاطئة فكيف يكون الأمر إذن أمام بروز
الهندسات التي تتمتع بنفس مساحة الصدق التي كانت تتمتع بها الهندسة الاقليدية
وهكذا أصبح اليقين الرياضي نسبي مع المنهج الاكسيومي الذي يهتم فقط بعدم التناقض
والصحة المنهجية بدل الصدق وقد عبر عن
هذا الوضع بولينقد
عندما يقول<إننا نشهد عصر
اختفاء القضايا المطلقة في الرياضيات>.
مما لاشك فيه أن أصحاب هذا الطرح قد تمكنوا إلى حد
بعيد من بيان الطابع الافتراضي للحقائق الرياضية المعاصرة حيث انتقلت من مجال
البديهيات إلى مجال المصادرات لكن هذا لا يدعوا للشك في قيمة اليقين الرياضي
بقدر ما يؤدي إلى تكامل الرؤية الرياضية وشموليتها بدليل التطور الكبير الذي
حققته الرياضيات المعاصرة خاصة في مجال الهندسة الفضائية التي لم تكن ممكنة مع
إقليدس.
ومن الموقفين السالفين لبد أن ينشأ موقف ثالث مؤسس
فلسفيا وعلميا وهو الرؤية الإيجابية للمنهج الأكسيومي المعاصر الذي لا يعتبر
قضاء على اليقين الرياضي بقدر ما هو تجاوز للنظرة الأحادية المطلقة حيث تبق كل
حقيقة هندسية صادقة ضمن نسقها لهذا فالمفهوم الجديد للصدق الرياضي لا يستوجب
الحكم بالصدق أو الكذب بقدر ما هو مهتم بالتوافق حيث يقول أحد الرياضيين
<ليست هناك هندسة أصدق من هندسة بل هناك هندسة أنسب من هندسة> وهكذا
تتكامل الهندسات الثلاثة فيما بينها تكاملا إيجابيا وبهذا يكون تعدد الأنساق
الرياضية فضاء خصبا يمثل مغامرة لفكر الإنساني في آفاق التجريد والإنشاء.
ومن كل ما سبق من تحليل نستنتج أن الحقيقة الرياضية هي
أدق الحقائق العلمية رغم أنها في ذاتها
ليست دقيقة دقة مطلقة بل نسبية تهتم بعدم التناقض المنهجي ومن هذا فالطابع
الشكلي والمنطقي هو الذي يسود في الرياضيات الحالية والمعاصرة فلم تعد الرياضيات
ذلك العلم المطلق بل أصبحت نتائجها نسبية مبنية على التناسق المنهجي وليس على
الوضوح والبداهة الإقليدية وهذا ما يثبته المنهج الأكسيومي المعاصر .
اما ليبنيتز فقد اثار قضية ذات معنى مفادها انه
اذا كان البناء الرياضي هو الذي يقوم على مجموعة من الاوليات( واضحة بذاتها لا
تحتاج الى برهان) فلماذا نشكك في البناء الاقليدي اذا لم تكن مبادئه ليست بديهية
بالمعنى الفطري للكلمة بل هي مجرد قضايا صادقة افتراضية ؟
و قد لقيت هذه القضية اهتماما كبيرا في القرن العشرو حينما حاولا عالمان و هما لوباتشفسكي من روسيا و ريمان من المجر تجاوز الهندسة الاقليدية بافتراضهما لبديهيات مخالفة لبديهيات اقليدس و اخذت المسلمة الخامسة مثاتلا على ذلك و هي تقول" من نقطة خارج المستقيم في سطح معين لا يمكننا رسم سوى موازيا واحدا لهذا المستقيم". انطلق لوبا تشفسكي من نقيضهاالقائل:" من نقطة خارج مستقيم في فضاء مقعر يمكننا رسم ما لا نهاية له من المتوازيات" و توصل بذلك الى انشاء هندسة جديدة موازية لهندسة اقليدس. اما ريمان فافترض: " من نقطة خارج مستقيم على سطح مكور لا يمكننا رسم و لا موازيا واحدا" و هكذا نشات الهندسات اللاقليدبة و ستنشا عنها استتباعات هامة لا بد من الوعي بها لانها صادقة و مبرهن عليها مثل ان مجموع زوايا المثلث لم يعد مساويا لزاويتين قائمتين بل اصبح اقل مع لوباتشفسكي 135درجة و اكثر مع ريمان 270 درجة. انطلاقا مما سبق تكون لدينا نتائج مبرهن عليها ليست متناقضة و نكون امام ثلاث هندسات : اولى تتوسل الفضاء المسطح و ثانية تعتمد الفضاء المقعر و اخيرة تستنجد بالفضاء المكور و كلها صحيحة
فماهو معيار الصدق الذي سيرينا بداهة احداها
عن الاخرى؟
هكذا إذن نشأت ما سيسمى بأزمة الأسس التي أحسن بلورتها المؤرخ و العالم الرياضي هنري بوانكاريه .إضافة إلى بروز هذه الهندسات نشير إلى رغبة العلماء في معرفة طبيعة الرياضيات التي كنا نعتقد أنها لا نقاش فيها ثابتة غير متغيرة و لكن أزمة الأسس أبرزت لنا أن مثل هذه البديهيات ليست سوى فرضيات و من هنا أعلن بوانكاريه عن بداية النهاية لزمن سيطرة البداهة.
الوضوح و التميز ليس لهما تقديرا بل هما ذهنيان فقط.ديكارت يضع معيار البداهة المعيار المحدد
للمعرفة العقلية و من خلال مثال قطعة الشمع ندرك ان المقصود هو لمحة من
لمحات الذهن اي ضرب من الحدس العقلي يبرز في الذهن فجاة من هنا كانت المبادىء
الرياضية مع ديكارت مبادىء فطرية واضحة بذاتها في غنى عن كل برهان
الديكارتيّ هي كل ما يتمثله ذهني بوضوح و
تميز
اعتمدت
الرياضيات الكلاسيكية على مجموعة من المباديء او المنطلقات التي لا يمكن
للرياضيي التراجع في البرهنة عليها الى ما لا نهاية، فهي قضايا اولية وبدئية لا
ايمكن استخلاصها من غيرها،وهي مباديء لاتحتاج الى برهان على صحتها لانها واضحة
بذاتها من جهة ولانها ضرورية لقيام المعرفة الرياضية من جهة اخرى، يستخدمها
الرياضي في حل كل قضاياه الرياضية المختلفة، فما هي هذه المياديء؟
التعريفات الرياضية هى اولى القضايا التى يلجأ اليها الرياضى من اجل بناء معنى رياضى واعطائه تمييزا يختلف عن غيره من المعانى الرياضية الاخرى، ومن أهم التعريفات الاقليدية الرياضية، نجد تعريف المثلث بانه شكل هندسى له ثلاثة اضلاع متقاطعة مثنى مثنى مجموع زواياه تساوى 180درجة. والنقطة هي شكل هندسي ليس لها ابعاد، او هي حاصل التقاء خطين. والخط المستقيم هوامتداد بدون عرض.البديهيات lesaxiomes هى قضايا واضحة بذاتها،صحيحة وصادقة بذاتها لاتحتاج الى دليل على صحتها براى الكلاسيكيين، أى لايمكن للعقل اثباتها أي تفرض نفسها على العقل بوضوحها لانها تستند الى تماسك مباديء العقل مع ذاته، فهي قضايا قبلية نشأت في العقل قبل التجربة الحسية، فهي قضايا حدسية يدركها العقل مباشرة دون برهان او استدلال، كما انها قضايا تحليلية موضوعها لايضيف علما جديدا الى محمولها، ومنها بديهيات اقليدس التى تقول: ان الكل اكبر من الجزء والجزء اصغر من الكل. الكميتان المساويتان لكمية ثالثة متساويتان. وبين نقطتين لايمكن رسم الا مستقيما واحدا. وأذا أضيفت كميات متساوية الى اخرى متساوية تكون النتائج متساوية. المصادرات les postulats تسمى احيانا بالاوليات واحيانا بالموضوعات .واحيانا بالمسلمات لان الرياضى هو الذى يضعها فهى اذن قضايا لانستطيع البرهنة على صحتها وليست واضحة بذاتها، أى فيها تسليم بالعجز، ولذلك نلجأ الى التسليم بصحتها. ومن مصادرات اقليدس نجد: مثلا من نقطة خارج مستقيم لانستطيع رسم الا مستقيما واحدا مواز للمستقيم الاول. المستقيمان المتوازيان مهما امتدا لايلتقيان. المكان سطح مستوي درجة انحنائه يساوي صفر وله ثلاثة ابعاد هي الطول والعرض والارتفاع.مجموع زوايا المثلث تساوى قائمتين. وتسمى هذه المبادىء فى مجموعها بالمبادىء الرياضية الكلاسيكية او بمبادىء النسق الاكسيوماتيكى نسبة الى كلمة اكسيوم والتى تعنى فى العربية البديهية. وهو نسق قائم على التمييز بين هذه المبادىء الثلاثة.مناقشة (نقد الاطروحة)
هل
معيار الحقيقة في الرياضيات يكمن في البداهة والوضوح أم في أتساق النتائج مع
المقدمات؟المقدمة (طرح المشكلة)توصف المعرفة الرياضية بالصناعة الصحيحة
واليقينية في منطلقاتها ونتائجها، لكن التساؤل عن معيار اليقين في الرياضيات كشف
انه ليس معيارا واحدا في الرياضيات الاقليدية والرياضيات المعاصرة، ذلك ان
الرياضيات الاقليدية تعتقد جازمة ببداهة ووضوح مبادئها وترى فيها النموذج الوحيد
في الصدق المطلق، اما الرياضيي المعاصر فلا تهمه المباديء ذاتها لأنها تشكل
مقدمات في النسق الرياضي ، بقدر ما يهمه النسق الرياضي في مجمله أي أن عدم تناقض
المقدمات مع النتائج هو معيار اليقين في الرياضيات. وفي ذلك نطرح السؤال التالي:هل
معيار اليقين في الرياضيات يتمثل في بداهة ووضوح مبادئها ام يتمثل في اتساق
نتائجها مع مقدماتها؟
|