- هل الحتمية مبدأ مطلق؟
I/- طرح المشكلة:
احتار العقل البشريّ، منذ تفتّحه على الوجود، بهذا العالم ونظامه، وحاول كشف أسرار هذا الكون، ومعرفة آلية هذا النظام، بكلّ ما أوتي من إرادة وقدرة على الملاحظة والتفكير والاستدراك. وتوسّل في سبيل ذلك الأسطورة ثمّ الأديان ثمّ الفلسفة، حتّى انتهى إلى العلوم. وقد لاحظ خلال هذه المسيرة أنّ للظواهر أسبابها، فاعترف بوجود السببيّة التي تعني:( المبدأ القائل بخضوع الأشياء لمبدأ العلية والقوانين الضرورية)، لكن هذه الفكرة أثارت جدلا بين أنصار الإتجاه الآلي وأنصار الإتجاه النسبي، فمنهم من يرى أن مبدأ الحتمية مبدأ مطلق وثابت لا يتغير يسود جميع الظواهر الطبيعية، والبعض الآخر يذهب إلى أن مبدأ الحتمية غير مطلق وغير ثابت لا يسود جميع الظواهر الطبيعية.
- هل الحتمية مبدأ مطلق؟
- هل القوانين العلمية نسبية أم مطلقة؟
- هل تتكرر حوادث المستقبل بنفس الطريقة التي تظهر بها في الحاضر؟
II/- محاولة حل المشكلة :
1/- الأطروحة: يرى أنصار الأطروحة أن مبدأ الحتمية هو أساس بناء أي قانون علمي ورفضه هو إلغاء للعقل وللعلم معا والحتمية ليست خاصة بالعلوم الفيزيائية وحدها فقط بل هي سارية المفعول حتى على كل العلوم وعلى كل الظواهر، وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة السببية وعلماء القرن 19 (نيوتن، غوبلو، كلود برنارد، لابلاص...). من مبررات هؤلاء نذكر: أن هناك نظامًا في الطّبيعة، وأنّ هذا النّظام المُتكرّر الوقوع في اطّرادٍ، ويحكم ذلك الاطّراد مبدأ السّببيّة (أيْ العلاقة بين العلّة والمعلول)؛ وهذا يعني لدى فلاسفة الحتميّة، أنّ كلّ ما يحدث في الكون والوجود، قابلٌ للتّفسير والتّنبُّؤ من حيث المبدأ الحاكم. ونَخلَص بهذا إلى النّتيجة القائِلة: « معرفتنا لجميع الشّروط الموضوعيّة على وجه الخصوص الّتي تُعيِّن وقوع الظّاهرة، تُمكّننا من التّنبُّؤ بما سيحُدث حتمًا «، أي أنّ هناكَ عللًا منطقيَّةً تتبعها بالضّرورة نتائجُ منطقيّة محتومة. وتدعو بمنطقيّة التّرابط الضّروريّ بين العلل والنّتائِج. ويقول الرّواقيّون: « إنّ العالَمَ كلّه عقلٌ وضرورةٌ طالت الإنسان، كما العالم بأسره ». إذن نحن نتحدّث عن أشياءَ مفروضة على الإنسان، تخرج عن نطاق قدرته، إنّ الحتميّة كالحسابات الرّياضيّة، فلو كانَ بيانٌ ما يقتضي وقوع حَدَثٍ ما في المُستقبل صحيحًا، تحتّم، إذن، أن يقع الحدث في المُستقبل. والحتميّة استمّدت دعائمها من ميكانيكيّة السّير عند نيوتُن، وقد عبَّر عنها المُفكّر الرّياضيّ الفرنسيّ، بيير "سيمون دو لابلاس" تعبيرًا دقيقًا في قوله: « لو استطاعَ عقلٌ ما أن يعلمَ في لحظةٍ مُعيّنة، جميع القوى الّتي تُحرّك الطّبيعة، وموقع كلّ كائنٍ من الكائِنات الّتي تتكوَّن منها، ولو كانَ هذا العقل من السّعةِ بحيث يستطيع أن يُخضع تلك المُعطيات للتّحليل، لاستطاعَ أن يُعبِّر بصيغةٍ واحدةٍ عن حركةِ أكبر أجسام الكون، وعن حركةِ أخفِّ الذّرّات وزنًا، ولكانَ علمه يقينيًّا، ولأصبحَ الماضي والمُستقبل ماثِلَيْن أما ناظِريْه كالحاضِر تمامًا». فمثلا "نيوتن" شبّه الكون بالساعة في الدقة والآلية وهو يعتقد أن تفسير الكون يخضع لمبادئ ذكر منها لكل فعل ردّ فعل يساويه في الشدة ويعاكسه في الاتجاه والتنبؤ يستند إلى القاعدة القائلة {إذا علمنا موقع جسم وسرعته وطبيعة حركته أمكننا التنبؤ بمساره}. إذن شرط قيام المعرفة العلمية هو الإيمان بالحتمية أي الظواهر الكونية محكوكة بعلاقة السببية بحيث {إذا تكررت نفس الأسباب تحدث دوما نفس النتائج} فلا مجال في الطبيعة للصدفة والتلقائية والاحتمال.
- المناقشة والنقد: استطاع أنصار الأطروحة إثبات أن مبدأ الحتمية هو أساس بناء أي قانون علمي ورفضه هو إلغاء للعقل وللعلم معا والحتمية ليست خاصة بالعلوم الفيزيائية وحدها فقط بل هي سارية المفعول حتى على كل العلوم وطل الظواهر الطبيعية، لكن، إن مبدأ الحتمية مسلمة عقلية وليس حقيقة حسية، وما يصدق على الجزء قد لا يصدق على الكل من الناحية المنطقية، ما يجعنا نعتقد أن أن "العلم المعاصر" أثبت بالبرهان أن الظواهر المتناهية في الصغر لا تخضع لمبدأ الحتمية.
2/- نقيض الأطروحة: يرى أنصار نقيض الأطروحة أن مبدأ الحتمية غير مطلق وغير ثابت لا يسود جميع الظواهر الطبيعية وهناك كثيرا من الظواهر المتناهية في الصغر لا يمكن معرفة جزئياتها وبذلك لا يمكن التنبؤ بها مستقبلا مما يثبت أن هذا العالم يفلت من مبدأ الحتمية، وقال بهذا الرأي أصحاب النزعة النسبية وعلماء القرن 20 (أينشطاين، هيزنبرغ، ماكس بلانك...). من مبررات هؤلاء نذكر: أن معطيات العلم في القرن 20 قد زعزعت الاعتقاد في الحتمية المطلقة مما أدى إلى ظهور ما يسمى بأزمة الحتمية، إذ ثبتت من خلال الحقائق العلمية الجديدة أن مبدأ الحتمية ليس مطلقا ولا يصدق إلا على العناصر الأولية التي تتكون منها الظواهر الطبيعية وبالتالي لا ينطبق إلا على الظواهر الكبرى أو "عالم الماكروفيزياء" أما "عالم الميكروفيزياء" أي الظواهر المتناهية في الصغر فهو يفلت من الحتمية ويدخل في مجال آخر هو مجال اللاحتمية وهذا ما أكد عليه كل من "ادينجتون" و " ديراك" فكلاهما يرى أن الدفاع عن مبدأ الحتمية المطلق بات مستحيلا وكلاهما يصرح بأن الظواهر المتناهية في الصغر تتحرك وفق مبدأ الإمكان والحرية والاختيار، فالطبيعة هنا تسير في اتجاهات مختلفة ولا يمكن التنبؤ بظواهرها في المستقبل والتنبؤ هنا بعيد عن الاحتمال. هذا وقد تناول "هيزنبرغ" وأوضح أن قياس الإلكترون في الذرة أمر صعب حيث يقول: (كلما دق قياس حركة كميته التبس موقعه. ويمتنع أن يقاس موقع الجسم وكمية حركته معا قياسا دقيقا أي يصعب تعيين موقع الجسيم وسرعته الابتدائية بالمفهوم الميكانيكي الاتباعي لذلك يصعب معرفة موقعه وسرعته في زمن لاحق)، وانطلاقا من هذه الحقائق التي غيرت المفهوم التقليدي للحتمية أصبح علماء الفيزياء يتكلمون بلغة أكثر تواضعا في لغة الاحتمال. ترفض اللاحتمية التسليم العلمي القائل بأنّ ما لم يُعثر على أسبابه كاملة، فهو ليس علميًا. كما ترفض تعريف المعرفة العلمية بأنّها معرفة الأسباب. كما ترفض اعتبار الكون آلة ضخمة تحكمها سلسلة من الأسباب الدقيقة المحدّدة سلفًا، كذلك ترفض اللاحتميّة المنهج الاستقرائي القائل، أنّ مجرّد العثور على عدد كافٍ من المعطيات والأجزاء كافٍ لإقامة القوانين العلمية العامةـ التي تسمح برسم صورة المستقبل والتنبؤ باتجاهاته. وكان راسل قد أشار إلى عدم وجود مبرّرات كافية لاعتبار الحالات التي لم نعرفها بعد، أو تلك التي ستحدث في المستقبل مشابهة حتمًا لحالات وقعت في الماضي. وجعل ذلك من باب الاحتمال، معتبرًا أنّه ليس من الحتمية في شيء. وتزايدت هذه الشكوك وتسللّت إلى حقول كثيرة، مؤكدة أنّ للحظّ وللصدفة والمخيّلة دورًا في معظم الاكتشافات العلمية.
- المناقشة والنقد: استطاع أنصار نقيض الأطروحة إثبات أن مبدأ الحتمية غير مطلق وغير ثابت لا يسود جميع الظواهر الطبيعية وهناك كثيرا من الظواهر المتناهية في الصغر لا يمكن معرفة جزئياتها وبذلك لا يمكن التنبؤ بها مستقبلا مما يثبت أن هذا العالم يفلت من مبدأ الحتمية، لكن، إذا كانت الأجهزة اليوم لا تستطيع حساب سرعة وحركة الالكترونات فان تطور هذه الأجهزة مستقبلا يمكن من حل هذا المشكل وبذلك إمكانيات التنبؤ في حركة الإلكترون ، هذا وان إنكار مبدأ الحتمية هو إنكار للعلم انطلاقا من انم بدا الحتمية مبدأ أساسي من مبادئ العلم.
3/- التركيب: تشكل الحتمية التقليدية صورة ميتافيزيقية متطرفة تتعارض مع الروح العلمية، والسبب في ذلك ما تنطوي عليه أدوات العلم من أشكال النقض وهذا واضح في بحوث الذرة التي حطمت التصوّر للكون. وعلى حدّ تعبير "لانجفان": "إن نظريات الذرة في الفيزياء الحديثة لا تهدم مبدأ الحتمية وإنما تهدم فكرة القوانين الصارمة" فالنسبية هي أساس العلم، هذه النظرية العقلانية الجديدة مبدأ ينسجم مع البحوث العلمية المعاصرة التي عبّر عنها "جيمس جونز" بقوله:"إذا نظرت إلى النظرية النموذجية لماكسويل تلمس الحتمية بوضوح أما إذا نظرنا إلى بحوث الذرة فلا تجد الحتمية".
III/- حل المشكلة:
نستنتج ألاّ وجود للعالم إلاّ من خلال إدراك الإنسان له. فهو لم يعد موجودًا ماديًا بحتًا بل موجودًا عقليًا، يبنيه الذهن انطلاقا من مسلّمات عقليّة في الرياضيات، أو فرضيات يقترحها العقل أيضًا في المنهج التجريبي. وإذا كان العقل قادرًا على وضع أنظمة متنوّعة، نستطيع القول بأنّ لا نظامًا واحدًا في العالم، بل أنظمة متعدّدة تبعًا للأطر العقليّة التي نصبّه بها. فالماء يأخذ شكل الإناء الذي يُصبّ فيه. مثالنا على ذلك أنظمة الهندسة الثلاث.
رسالة التنبيه: في حالة وجود رابط لا يعمل يرجى تنبيهنا في التعليقات.